+A
A-

“البلاد” تستعرض كتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين” للكاتب عبدالنبي الشعلة (الحلقة الخامسة)

كان غاندي في صباه صبيًا مدللًا خجولًا، لا يخرج من بيته ليلًا؛ خوفًا من الأرواح والأشباح والعفاريت والثعابين واللصوص، فتحول لاحقًا إلى رمز للقوة والشجاعة، وإنسان صلب صامد لا يخاف الموت ولا يهاب البطش، تحققت لبلاده على يديه الحرية والاستقلال والكرامة التي انتزعها من براثن واحدة من أعتى قوى العالم وقتها. كان غاندي ثائرًا ومصلحًا وفيلسوفًا ومفكرًا وسياسيًا وقائدًا وقديسًا، إنسانًا يجمع كل هذه الصفات والخصائص في آن واحد، شخصية مميزة ومتميزة، مثقلة بالكثير من التناقضات.

يتناول الكاتب الباحث عبدالنبي الشعلة بكتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين” كيف أثارت شخصية غاندي الكثير من الجدل والتساؤلات إلى درجة التشكيك فيما إذا كانت مظاهر الضعف والهزال والتقشف والانكسار التي كان يبدو فيها مجرد تكتيك وجزء من إستراتيجية مبيتة.

وتنشر “البلاد” على مدار حلقات أبرز ما يتضمنه كتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين”.

 

طرد غاندي من مقصورة الدرجة الأولى

حادثة القطار المشهورة في مايو 1893

في الطريق إلى بريتوريا وقعت حادثة القطار المشهورة التي هزّت كيان غاندي، وأدت إلى تغيير مسار حياته وساهمت في تحديد مستقبل الهند ومجرى التاريخ، عندما كان غاندي راكب القطار في دربن بتاريخ 31 مايو  1893م، أي بعد أسبوع واحد من وصوله إلى جنوب أفريقيا، متوجهًا إلى مدينة بريتوريا.

في هذه الرحلة وجد غاندي نفسه وجهًا لوجه مع واحدة من أبشع صور التمييز والفصل العنصري التي كان هو محورها وضحيتها، فقد حجز له عبدالله سيت مقعدًا للسفر بالقطار إلى بريتوريا في مقصورة الدرجة الأولى.

ركب غاندي القطار وجلس في المقعد المخصص له في مقصورة الدرجة الأولى، وفي المساء، وأثناء الرحلة، توقف القطار بمحطة مدينة بيترماريتزبرغ، عاصمة إقليم الناتال، ليدخل إلى المقصورة رجل أبيض، فلما رأى غاندي جالسًا فيها نظر إليه باستعلاء وازدراء، وغادرها فورًا ليعود بعد دقائق بصحبة أحد موظفي المحطة من البيض أيضًا، ثم التحق بهم موظف ثانٍ من البيض كذلك.

وقف الثلاثة أمام غاندي مظهرين علامات الاستغراب والدهشة، إلى أن قال واحد منهم مخاطبًا غاندي بعجرفة وصلافة:

- قمْ، تحرّك من هنا، واذهب إلى عربة الدرجة الثالثة، العربة المخصصة للملونين.

أجاب غاندي بهدوء:

- لكنني أحمل تذكرة للسفر على الدرجة الأولى!

رد الموظف بسخط:

- لا يهم، اسمعني، قلت لك اترك هذا المكان واذهب إلى عربة الدرجة الثالثة.

أجاب غاندي بحزم:

- أنت اسمعني، لقد سُمِح لي في دربن بالسفر في هذه المقصورة، وأنا مصرٌّ على إكمال الرحلة فيها.

رد الموظف بعنجهية وغضب منذرًا غاندي بضرورة مغادرة المقصورة:

- إذا رفضت المغادرة فإنني سأستدعي ضابط الشرطة لإخراجك بالقوة منها.

أجاب غاندي بهدوء أيضًا:

- نعم يمكنك ذلك، لكنني أرفض المغادرة بمحض إرادتي.

بعدها، جاء ضابط الشرطة واقتاد غاندي بعنف إلى خارج المقصورة ورمى به على رصيف المحطة وقذف بحقيبته إلى جانبه على الرصيف.

كان غاندي غاضبًا حانقًا رافضًا بقوة هذا التصرف الجائر، لكنه لم يبدِ أي مقاومة عنيفة، كان ذلك الموقف أول مؤشرات قناعة غاندي والتزامه بالمقاومة السلمية واللاعنف.

 

العقد لسنة ولكنه عَمِل 21 عامًا

أحسّ غاندي بالراحة والاطمئنان عندما أدرك منذ البداية أنه قد نال ثقة صاحب العمل، الذي سيعمل تحت إمرته، وحاز على تقديره واهتمامه، وقد تعاقد غاندي مع “شركة دادا عبدالله وشركاه” للعمل معهم لمدة سنة واحدة، ولم يتوقع أن تمتد فترة إقامته في جنوب أفريقيا لحوالي واحد وعشرين عامًا.

لم يكن غاندي يتوقع أيضًا أن تصبح تلك الخطوة منعطفًا حادًّا في مسيرته المهنية، ونقطة تحول مفصلية في تكوين شخصيته، ومحطة مصيرية في حياته ومستقبله، بل في مصير الهند وتاريخ العالم. أصبحت جنوب أفريقيا البوابة التي دخل منها غاندي إلى آفاق واسعة سيثبت فيها براعته الفكرية والتنظيمية والقيادية.

 

التسلط والازدراء والعداء في “دربن”

من المستوطنين البيض ضد الهنود

في العام 1893عندما قدم غاندي إلى جنوب إفريقيا ووطأت قدماه مدينة دربن Durban، كان عدد سكانها يبلغ 300 ألف نسمة، نصفهم من المستوطنين البيض، والنصف الآخر يتكون بالتساوي تقريبًا من الهنود والسكان الأفارقة السود.

وأيضًا منذ الوهلة الأولى التي وطأت فيها قدماه أرض جنوب إفريقيا أحسّ غاندي فيها بأجواء التسلط والازدراء والعداء تجاه الهنود من جانب المستوطنين البيض، وواجه نظامًا عنصريًّا تعسفيًّا يضطهد كل الملونين، وكانت الجالية الهندية تتعرض لأصناف الاضطهاد والتمييز العرقي كافة من قبل الأقلية البيضاء التي كانت تمسك بزمام الحكم في البلاد بشدة وقسوة، فقد منع الهنود حتى من المشي على أرصفة الشوارع، وأجبروا على المشي في المنخفضات المخصصة لجريان مخلفات المنازل. تأثر غاندي بهذه المشاهد المهينة وكتب مقولته المشهورة: “أصبح كاللغز بالنسبة إليَّ كيف يحس البشر بالرفعة عندما يُذلّون بني جلدتهم”.

واجتمع غاندي في دربن بقادة الجالية الهندية فيها من الهندوس والمسلمين والمسيحيين والزرادشتيين، واستمع منهم إلى ما كان يعانيه الهنود في حياتهم اليومية من تمييز عرقي وتسلط وذل وإجحاف من قبل المستوطنين البيض الذين كانوا ينظرون إليهم كمخزون للأيدي العاملة الرخيصة فحسب.

وبهدف محاصرة الهنود وإبقائهم في زاوية سوق العمل المتدنية، فقد فرض الحكام البيض عليهم قوانين مجحفة وأنظمة صارمة مُنَفِّرة وضرائب عالية مرهقة، وذلك لصدهم ومنعهم من تملك المزارع أو الانخراط في العمل الحر، كما حُرِم الهنود من الحصول على جنسية جنوب إفريقيا أو ممارسة حقهم في التصويت في الانتخابات.

وتم تأطير وتقنين نظام التمييز والفصل العنصري بحق الهنود وتطبيقه على كل المستويات والمحاور والأصعدة.

 

هنود جنوب إفريقيا... عرب

غادر غاندي الهند بحرًا بتاريخ 19 أبريل 1893م متوجهًا إلى جنوب إفريقيا، ووصل ميناء دربن Durban في 23 مايو 1893.

كان عبدالله سيت، الشريك الرئيس في شركة دادا عبدالله وشركاه في استقباله، فسلم عليه وعانقه على رصيف الميناء.

واستلم فور وصوله مهام عمله الجديد في جنوب إفريقيا، وكان عمره في ذلك الوقت أربعة وعشرين عامًا.

لم يكن مظهر غاندي بعمامته ولباسه الغربي الأنيق مألوفًا لدى المستوطنين البيض في المدينة التي اعتادوا رؤية العمال الهنود فيها وهم يرتدون باستمرار لباسهم التقليدي الرث، أما التجار الهنود المسلمون في جنوب إفريقيا، بمن فيهم عبدالله سيت نفسه، فقد كانوا يلبسون ألبسة فضفاضة، ويضعون على رؤوسهم عمائم بيضاء كبيرة، ويطلقون لحاهم الكثيفة، وكان يُطلق عليهم، كما كانوا يَطلقون على أنفسهم اسم “العرب”. وكان الزرادشتيون القادمون من الهند كموظفين أو تجار يُسَمَون “فُرس”.

أما الهندوس والمسيحيون الهنود فكان المستوطنون البيض يطلقون عليهم اسم “كوليز Coolies” ومعناها الحمالون أو الشيالون.

 

الهنود تدفقوا على جنوب إفريقيا منذ 1860

للعمل بمزارع السُّكر بعقود محددة المدة

وصل غاندي إلى مدينة دربِن Durban في مستعمرة ناتال Natal البريطانية (التي تسمى الآن كوازولو - ناتال Kwazulu-Natal) وهي إقليم صغير على الساحل الشرقي لجنوب إفريقيا، في تلك الفترة كانت أراضي القارة الإفريقية وثرواتها واقعة تحت سيطرة الأوروبيين، وموزعة بين القوى الأوروبية الكبرى حسب اتفاق مؤتمر برلين للعام 1885.

في تلك الفترة أيضًا لم تصبح جنوب إفريقيا بعد كيانًا سياسيًّا واحدًا، إذ كان إقليم ناتال الواقع على الساحل الشرقي مستعمرة بريطانية تحت الحكم البريطاني المباشر، وكان إقليم “الكيب” الواقع في الجنوب الغربي يقع تحت السيادة البريطانية ويتمتع بنظام حكم محلي يترأسه رئيس الوزراء سيسيل رودس Cecil Rhodes.

إن غالبية سكان جنوب إفريقيا كانوا يتكونون من السكان الأصليين من مختلف قبائل الأفارقة السود من بينها قبائل الزولو. يأتي بعدهم المستوطنون البيض، ثم في الدرجة الثالثة من حيث العدد يأتي الهنود.

وقد بدأ تدفق الهنود على جنوب إفريقيا منذ العام 1860 عندما تم استقدامهم للعمل في مزارع السكر بموجب عقود محددة المدة.

وقَدِم غالبية الهنود من جنوب الهند من الناطقين بلغتي التامل والتلغو، وكذلك من إقليم البيهار وأوتربراديش الذين كانو يتحدثون اللغة الهندية.

 

عبدالله سيت صدّر الذهب من الهند

لا يعرف العربية ولكن يقرأ القرآن الكريم

جاء عبدالله سيت إلى جنوب إفريقيا من مدينة بوربندر بإقليم كوجرات بالهند، وهي المدينة التي ولد غاندي فيها، وكان أميًّا تقريبًا لا يجيد القراءة ولا الكتابة، إلا أنه أصبح رجل أعمال حاذقًا بارعًا، يملك عددًا من البواخر، ويدير أعماله المتفرعة في الناتال والترانسفال بكفاءة واقتدار.

وقد كوَّن الرجل ثروته الطائلة حين بدأ العمل في نهاية الثمانينات من القرن الثامن عشر في تصدير الذهب، الذي تم اكتشافه وقتها في جنوب إفريقيا، إلى الهند.

وفي مذكراته، أشاد غاندي بعبدالله سيت: “كان الهنود يحترمونه احترامًا عظيمًا، فقد كانت مؤسسته هي أعظم، أو على الأقل واحدة من أعظم، المؤسسات الهندية، كان فخورًا بالإسلام، محبًّا للتحدث عن الفلسفة الإسلامية. وعلى الرغم من أنه لم يكن يعرف اللغة العربية، إلا أن معرفته بالقرآن الكريم وبالأدب الإسلامي على العموم كانت معرفة جيدة، وكان يملك ثروة من الشواهد والأمثال، وكانت هذه الثروة بتصرفه دائمًا، والواقع أن احتكاكي به أفادني مقدارًا صالحًا من المعرفة العملية بالإسلام، لقد دارت بيننا، عندما توثقت صلاتنا، مناقشات طويلة في الموضوعات الدينية “.