+A
A-

“البلاد” تستعرض كتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين” للكاتب عبدالنبي الشعلة (الحلقة الرابعة)

كان غاندي في صباه صبيًا مدللًا خجولًا، لا يخرج من بيته ليلًا؛ خوفًا من الأرواح والأشباح والعفاريت والثعابين واللصوص، فتحول لاحقًا إلى رمز للقوة والشجاعة، وإنسان صلب صامد لا يخاف الموت ولا يهاب البطش، تحققت لبلاده على يديه الحرية والاستقلال والكرامة التي انتزعها من براثن واحدة من أعتى قوى العالم وقتها. كان غاندي ثائرًا ومصلحًا وفيلسوفًا ومفكرًا وسياسيًا وقائدًا وقديسًا، إنسانًا يجمع كل هذه الصفات والخصائص في آن واحد، شخصية مميزة ومتميزة، مثقلة بالكثير من التناقضات.

يتناول الكاتب الباحث عبدالنبي الشعلة بكتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين” كيف أثارت شخصية غاندي الكثير من الجدل والتساؤلات إلى درجة التشكيك فيما إذا كانت مظاهر الضعف والهزال والتقشف والانكسار التي كان يبدو فيها مجرد تكتيك وجزء من إستراتيجية مبيتة.

وتنشر “البلاد” على مدار حلقات أبرز ما يتضمنه كتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين”.

 

الانتقال لشركة عبدالله بجنوب إفريقيا

مؤسسة هندية ضخمة يمتلكها مسلمون

ظل غاندي عاطلًا عن العمل بعد عودته من لندن للهند لا يزاول مهنته بشكل ثابت مستقر، ومع مرور الأيام أصبح يشعر بالضياع وبكثير من التذمر والإخفاق، قال غاندي عن تلك الفترة وذلك الظرف: “هذا الجو بدا لي سامًا، وكان البقاء في نجوة من هذا البلاء يؤلف مشكلة سرمدية بالنسبة إليّ. كنت مغتمًا إلى أبعد الحدود، ولقد رأى أخي ذلك بوضوح. لقد شعر كلانا بأن من الخير لي، إذا استطعت الفوز بعمل ما أن أنجو بنفسي”.

وجاء الخلاص وتدخل القدر، على يد شخص مسلم هذه المرة أيضًا، فتلقى غاندي عرضًا، عن طريق أخيه، للعمل كمستشار قانوني لشركة “دادا عبدالله وشركاه”، وهي شركة هندية يمتلكها مسلمون تعمل في جنوب إفريقيا، جاء فيه: “إن لدينا عملا في جنوب إفريقيا، ومؤسستنا مؤسسة ضخمة، وإن لنا قضية كبيرة في المحاكم هناك، إذ نطالب بأربعين ألف جنيه إسترليني. إن القضاء لا يزال ينظر في تلك الدعوى التي أقمناها منذ زمن بعيد، ولقد عهدنا بها إلى خيرة المحامين، فإذا ما أرسلت أخاك إلى هناك فقد يكون ذا نفع لنا ولنفسه أيضًا. إن في ميسوره أن يوجه محامينا أحسن مما نوجهه نحن. ولسوف ينعم برؤية جزء جديد من العالم، وبإنشاء صداقات جديدة”.

قبل غاندي العرض بكل حماسة وسرور، والتقى السيت عبدالكريم جافري، أحد الشركاء في الشركة، واتفق معه على كل الترتيبات.

 

تأثر بالنبي محمد بسبب مؤرخ أسكتلندي

شارك بأنشطة الجمعية الإسلامية اللندنية

في لندن قرأ غاندي أيضًا القرآن الكريم وسيرة النبي محمد (ص). وتأثر كثيرًا بشخصية رسول الإسلام التي أبرزها الفيلسوف والمؤرخ والمفكر الاسكوتلندي توماس كارلايل Thomas Carlyle في كتابه الشهير “الأبطال وعبادة البطل Heroes and Hero-worship”.

قرن تلك القراءات بالمشاركة في أنشطة “الجمعية الإسلامية” في لندن “Anjuman-e-Islam”، التي أسسها الطلبة المسلمون في العام 1886 برئاسة عبدالله سوهراواردي، الذي كان أحد طلبة القانون الهنود في لندن.

كل تلك الجهود المضنية والمساعي الحثيثة نحو الاطلاع واستنزاف مزيد من العلم والمعرفة لم تعق غاندي عن تحقيق الهدف الأساسي الذي جاء من أجله إلى لندن، فقد استكمل دراسته للقانون بنجاح، درس القانون الروماني واللغة اللاتينية، ودرس القانون العام الإنجليزي Common Law of England، واجتاز الامتحان النهائي في 10 يونيو 1891، وحصل على إجازة المحاماة وأدرج اسمه كمحامٍ مجاز للترافع في المحاكم العليا.

 

انجذب للثيوصوفية بعد لقاء أيرلندية

في العام التالي لوصوله لندن، التقى غاندي آني بيسانت Annie Beasant، وهي سيدة أيرلندية، كانت قد انتقلت لتوها آنذاك من الفكر الإلحادي المتطرف إلى الفكر الثيوصوفي، هذه السيدة لعبت فيما بعد دورًا بارزًا في الحياة السياسية وحركة استقلال الهند.

اللقاء مع آني بيسانت قاد غاندي إلى مدرسة أو طريقة الثيوصوفية التي انجذب إليها بشدة في البداية.

لقد وجد غاندي أن الفكر الثيوصوفي أَرسى بعض مفاهيمه على قواعد تمتد جذورها إلى الفلسفة الهندوسية، فهو يدعو إلى معرفة الذات الإلهية عن طريق الكشف الصوفي الذي ينبع من فكر وحكمة الشرق، ويَمزُج الدين بالعلم وبالفلسفة. وقتها كان قد مضى قرن من الزمان منذ أن تأسست المدرسة الثيوصوفية.

إن كلمة “ثيوصوفية” جاءت من اليونانية “ثيوس”، وتعني الإله، و”سوفوس” التي تعني حكمة، وبذلك فإن الثيوصوفية تعني الحكمة الإلهية، وهي معرفة أسرار الكون والطبيعة والإنسان الموغل في القدم، والتي تنكشف للعالم كلما ارتأى الحكماء ضرورة ذلك لمساعدة الإنسان في تطوره الروحي.

لكن غاندي لم يستوعب مفهوم القوى الغامضة التي يزخر بها الفكر الثيوصوفي، وفي النهاية لم ينضم إلى هذه الطريقة، قائلاً: “إني بمعرفتي الهزيلة لديني الخاص، لا أريد أن أنضم إلى أية مؤسسة دينية”.

 

دراسته لم تؤهله للعمل بقضاء الهند

عندما عاد غاندي إلى الهند بعد إتمام دراسته كان يحس بالفخر والسعادة لما حققه من إنجاز خلال إقامته في لندن وبالشهادة الجامعية التي حصل عليها، لكنه فوجئ وصدم عندما اكتشف أن دراسته لم تؤهله كما يجب للعمل في ساحة القضاء في الهند، فقد كان بحاجة إلى الإلمام بأصول وقواعد القانون الهندوسي وأحكام الشريعة الإسلامية، إلى جانب ذلك فقد اكتشف أيضًا وجود بعض جوانب العوار، وجملة من الممارسات الضارة التي كانت سائدة تحت مظلة القضاء الهندي، والتي اعتبرها غاندي ممارسات شاذة وغير مهنية أو أخلاقية، منها استعداد المحامين لدفع عمولات أو أتعاب لسماسرة يقومون بجلب القضايا واصطياد الزبائن لهم.

لم يستطع غاندي الاندماج بسهولة في النظام القضائي في الهند آنذاك، وكاد يفقد ثقته في نفسه ويقع فريسة في قبضة خيبة الأمل والإحباط، ولم يتمكن من الحصول على قضايا يترافع عنها منذ أن عاد إلى بلاده قبل بضعة أشهر، اللهم إلا قضية واحدة أشار إليها غاندي في مذكراته، فقد قال: “كانت عبارة عن عريضة ينبغي أن تُكتب، فقد صودرت أرض رجل فقير مسلم من بوربندر، فلجأ إليّ بوصفي ابنًا فاضلا لأب فاضل. لقد بدت قضيته ضعيفة. ولكني وافقت على كتابة العريضة باسمه، على أن يتحمل هو نفقات طبعها. لقد كتبتها وقرأتها على مسامع بعض الأصدقاء، فأقروها، فكان في هذا، إلى حد محدود، ما جعلني أستشعر الثقة بأني قادر على صياغة عريضة ما، كما قد كنت في الواقع”.

 

تعلَّم غاندي الرقص والموسيقى

تعود اعتمار القبعة ولبس الملابس الغربية

وصل غاندي إلى لندن في العام 1888 لدراسة القانون، وهو متمسك بانتمائه وهويته الدينية الهندوسية، إلا أنه لم يكن ملتزمًا أو مهتمًا بأداء أي من الشعائر الدينية التي يتطلبها ذلك الانتماء، إذ لم تكن وقتها قد ترسخت في وجدانه قناعاته الدينية الهندوسية.

كان وقتها يحلم ويتطلع إلى اعتناق القيم البريطانية، وبذل جهودًا مضنية للاندماج في المجتمع البريطاني، فسعى إلى الارتقاء بمستوى إتقانه اللغة الإنجليزية، وواظب على قراءة الصحف البريطانية اليومية بانتظام، وتعود على وضع القبعة على رأسه، وتعلم لبس الملابس الغربية المناسبة التي كان يشتريها من أرقى المتاجر في “بوند ستريت” الذي كان ولا يزال من أشهر شوارع لندن لبيع الملابس الإنجليزية التقليدية وآخر صيحات الموضة للرجال والنساء.

أخذ غاندي يتقمص العادات والتقاليد الإنجليزية ويهتم بهندامه ومظهره ويحرص دائمًا على ارتداء الزي الغربي؛ سعيًا منه للاندماج في المجتمع، وللغرض نفسه بدأ يتعلم اللغة الفرنسية والرقص وفن الخطابة والموسيقى والعزف على آلة الكمان، إلا أنه التزم بصرامة بالبقاء نباتيًا في أكله، على الرغم من الصعوبات التي واجهته في البداية، وعلى الرغم من تهكم وضغوط عدد من أصدقائه ومعارفه في لندن، وكلما ازدادت الصعوبات والضغوط ازداد غاندي تشبثًا بموقفه وتمسكًا برأيه.

 

غاندي شيَّع “برادلوف” ورفض الإلحاد

تعرف على العلمانية الغربية والماركسية

كانت لندن في تلك الفترة ساحة رحبة للسجالات الفكرية والعقائدية، وقد تعرف غاندي أثناء وجوده فيها على مختلف الحركات والاتجاهات الفكرية والسياسية ومدارس الفكر العلماني السائدة في العالم الغربي في ذلك الوقت، بما في ذلك الفكر الاشتراكي الماركسي.

ومن بين أبرز المحطات التي توقف عندها غاندي في هذه الساحة الفكرية الشاسعة كانت حياة وأفكار تشارلز برادلوف Charles Bradlaugh، وهو مفكر بريطاني ملحد ومنكر لوجود الله، وقد أسس الجمعية الإنجليزية الوطنية للعلمانيين، التي كانت مبادئها ترتكز على المعتقد الإلحادي “بأن الإيمان بالقوة فوق الطبيعية نابع من الجهل، وهو مدمر للتقدم”، وقد شارك غاندي في تشييع جنازة تشارلز برادلوف في الثالث من فبراير 1891، لكنه في نهاية هذا المطاف رفض الفكر الإلحادي رفضًا قاطعًا، وقال: “ليس من المغالاة القول بأن الأيمان والصلوات هي الحقيقة، وإن أي شيء آخر لا يمت للحقيقة بصلة”.

لقد تفتق ذهن غاندي في تلك الفترة، وتفتح بصره وبصيرته على مسائل وحقائق كونية جديدة ساهمت في تغيير مجرى حياته.

 

“حارب عدوك بالسلاح الذي يخشاه، لا بالسلاح الذي أنت تخشاه”.

غاندي