+A
A-

“البلاد” تستعرض كتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين” للكاتب عبدالنبي الشعلة (الحلقة الأولى)

كان غاندي في صباه صبيًا مدللًا خجولًا، لا يخرج من بيته ليلًا؛ خوفًا من الأرواح والأشباح والعفاريت والثعابين واللصوص، فتحول لاحقًا إلى رمز للقوة والشجاعة، وإنسان صلب صامد لا يخاف الموت ولا يهاب البطش، تحققت لبلاده على يديه الحرية والاستقلال والكرامة التي انتزعها من براثن واحدة من أعتى قوى العالم وقتها.

كان غاندي ثائرًا ومصلحًا وفيلسوفًا ومفكرًا وسياسيًا وقائدًا وقديسًا، إنسانًا يجمع كل هذه الصفات والخصائص في آن واحد، شخصية مميزة ومتميزة، مثقلة بالكثير من التناقضات.

يتناول الكاتب الباحث عبدالنبي الشعلة بكتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين” كيف أثارت شخصية غاندي الكثير من الجدل والتساؤلات إلى درجة التشكيك فيما إذا كانت مظاهر الضعف والهزال والتقشف والانكسار التي كان يبدو فيها مجرد تكتيك وجزء من إستراتيجية مبيتة.

وتنشر “البلاد” على مدار حلقات أبرز ما يتضمنه كتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين”.

 

نفور فطري حاد وحساسية مفرطة تجاه الظلم والتفرقة

أرسى نظرياته على قاعدة مناهضة الاستبداد

لن يستقيم المسعى، ولن نستطيع أن نستوعب آراء غاندي ونتفهم مواقفه تجاه جميع القضايا، بما في ذلك مواقفه تجاه قضايا المسلمين وقضايا الأمة العربية، من دون رصد وتتبع، ولو بقليل من الجهد، بعض المنابع الفكرية التي غذت حسه السياسي، وأن نتوقف عند بعض المحطات ونتصفح بإيجاز شديد جوانب من أفكاره ونظرياته السياسية التي ساهمت في بلورة مواقفه تجاه مختلف القضايا.

لقد انبثقت أفكار غاندي السياسية من نفور فطري حاد وحساسية مفرطة تجاه الظلم والتفرقة؛ لذلك فقد تميزت أفكاره منذ البداية بإيمان عميق راسخ بقيم الحرية والعدالة والمساواة، وقناعة ثابتة مستقرة بحتمية انتصار الحق على الباطل وغلبة العدل على الظلم وسيادة الخير على الشر، مهما امتدت المسافات أو طال الزمن.

ومن هذا المنطلق، فقد أرسى غاندي نظرياته السياسية على قاعدة مناهضة الظلم والتفرقة والاستبداد، وعلى مبدأ التضحية من أجل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة. إن التزام غاندي بهذه الفضائل والمبادئ قاده إلى الانخراط في الحراك السياسي، وليس العكس.

 

 

لينين وستالين وماوتسي تونغ على نقيض غاندي تمامًا

لأنهم على استعداد للتضحية بالفرد في سبيل تحقيق مكاسب أيديولوجية

اعتبر غاندي المواطن غاية العملية السياسية وليس الدولة، وجعل الفرد محور اهتمامه، وهو بذلك يختلف عن الكثير من معاصريه من القادة والمفكرين السياسيين؛ أمثال لينين وستالين وماوتسي تونغ، الذين كانوا على نقيضه تمامًا، وكانوا على استعداد للتضحية بالفرد في سبيل تمرير مهام وطنية أو تحقيق مكاسب سياسية أو أيديولوجية.

غاندي كان يحمل على عاتقه رسالة إنسانية منسوجة بوشائج روحية وأخلاقية، ولم يكن مستعدًا للمتاجرة بأي إنسان أو المقايضة بكرامته، ولم يكن يقبل بخوض معارك تحركها أهداف أيديولوجية، ولم يكن يهتم بالإحصاءات، فكل القضايا بالنسبة إليه محكومة بالقيم الإنسانية، وسمو الغاية يقتضي سمو الوسيلة، على خلاف قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”.

ستالين ولينين وماوتسي تونغ وأقرانهم يقبعون الآن وراء أسوار تاريخهم، لكن غاندي تحول إلى رمز ساطع وأصبح أنموذجًا وقدوة لقادة عظام من الذين كتبوا تاريخ الإنسانية، الذين آمنوا مثله بقيم الحرية والعدالة والمساواة، وحذوا حذوه بالتمسك بالوسائل السلمية ونبذ العنف في كفاحهم المستميت لِفك الأغلال عن رقاب شعوبهم وتحطيم منظومة الظلم والاستعباد والتمييز التي كانت تعانيه مجتمعاتهم، وكان من أبرزهم مارتن لوثر كنغ، الذي قاد حركة الحقوق المدنية في أمريكا، ونلسون مانديلا، الذي قاد كفاح الأفارقة السود ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

 

“تجنب العنف” مصطلح منتزع من بطن الفلسفة الدينية الهندوسية

استنباط صيغة تجمع بين السياسة والدين والأخلاق في بوتقة واحدة

لقد أدرك غاندي أن مكونات المجتمع المتعددة في الهند أصبحت متمترسة في حصونها الدينية المختلفة، وأصبحت الهويات الدينية المتنوعة لمختلف الشرائح هي الطاغية، على حساب وفي غياب هوية وطنية راسخة جامعة واضحة المعالم.

هذا المشهد جعل من إلغاء دور الدين في الحياة العامة مهمة صعبة، إن لم تكن مستحيلة، وكان ذلك هو الإشكال والتحدي الذي واجهه، فالأهداف التي يسعى إلى تحقيقها تتطلب منه اقتحام تلك المعاقل والتواصل معها وبينها، وكان عليه أن يحرص على أن يتم ذلك التواصل بعيدًا عن القنوات الدينية وعبر جسور روحية وخيوط أخلاقية لا خلاف حولها، مُستلَّة ومُستلهمة من روح وقيم مختلف الأديان، فاستنبط غاندي صيغة تجمع بين السياسة والدين والأخلاق في بوتقة واحدة، وأضفى الطابع الأخلاقي على المبادئ السياسية وطعمها بقيم روحية، واستحضر المعاني السامية للأديان وحقنها في شرايين العمل السياسي، بدلا من القفز عليها أو تركها لاستهلاك مبتغيات الحياة الآخرة.

ونجح غاندي أيضًا في تطويع الكثير من المصطلحات الدينية وتحويلها إلى مفردات سياسية مبتكرة، من أبرزها مصطلح “أهمسا” الذي انتزعه من بطن الفلسفة الدينية الهندوسية، والذي يعني “تجنب العنف”، وحوَّل هذا المصطلح إلى أداة محرِّكة ومحفِّزة للحس الوطني، نَقَلها ببراعة إلى ساحة السياسة، وأقحمها في صلب الممارسات الديمقراطية والحراك السياسي الوطني الذي يهدف إلى تحقيق دولة علمانية على أسس ديمقراطية.

 

جلد على عظم يسير

تمكن الشاعر العراقي صالح بن عبدالكريم الجعفري النجفي (1907 - 1979)، من وصف حالة غاندي الجسدية في أدق وصف عندما قال:

جلد على عظم يسير فيقطع الشُعَب الطوال

لا يرتدي غير النسيج نسيج كفيه الهزال

شبح ضئيل كاد لولا الصوت أن يمسي خيال

ملك القلوب وإنها جيش بعيد الانخذال

 

مساعٍ للقضاء على نظام التمييز ضد المنبوذين

لإدماجهم بالمجتمع وعدم الانزلاق باختلافات مذهبية قائمة

كانت تفصل وتفرق بين مكونات الشعب الهندي فواصل واختلافات وانقسامات وانشقاقات عرقية ودينية وطبقية وثقافية واجتماعية وإقليمية واقتصادية وغيرها؛ بنية اجتماعية متصدعة، فوارق طبقية واقتصادية شاسعة، مئات اللغات واللهجات والعادات والتقاليد، مشارب وانتماءات متباينة، وساحة واسعة مكتظة بمختلف المعتقدات والمذاهب والديانات، بما في ذلك كل الأديان المعروفة على وجه الأرض كالزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام بتفرعاتها المذهبية كافة.

بالإضافة طبعًا إلى المكون الديني الأكبر، وهو الهندوسية بمدارسها وطبقاتها الاجتماعية والمهنية المتعددة وصيغها المختلفة كالجينية على سبيل المثال لا الحصر، فضلا عن البوذية والسيخية، وهلمَّ جرَّا.

وجد غاندي أن الهندوس منشطرون ومنقسمون إلى طبقات ومدارس مختلفة، والمسلمين متفرقون بين طوائف ومذاهب واتجاهات متباينة.

بالنسبة للهندوس، فقد سعى غاندي إلى إزالة الفوارق الطبقية والقضاء على “نظام التمييز ضد المنبوذين” وإدماجهم في المجتمع.

أما بالنسبة إلى المسلمين، فقد رفع غاندي نفسه عن الانزلاق في الاختلافات المذهبية القائمة بينهم إلى درجة أن اتهمه مناوئوه أو منتقدوه بأنه تعرف على الصيغة المبسطة للإسلام وتغاضى عن المكونات الأخرى المختلفة للمسلمين الهنود؛ لقد اختار أن يُكوِّن في مخيلته وحدة إسلامية متجانسة.

 

 

إدراك حساسية وخطورة الدمج أو الربط بين السياسة والدين

الديمقراطية الوسيلة الأنجع لاستحداث نظام اجتماعي واقتصادي منصف

رسم غاندي خارطة طريق فكرية وإستراتيجية، أو خطة عمل واضحة ترمي إلى تحقيق الديمقراطية في الهند انطلاقًا من الأسفل إلى الأعلى، أو من قاعدة الهرم الاجتماعي إلى قمته، واعتبر الديمقراطية الوسيلة الأنجع لاستحداث نظام اجتماعي واقتصادي منصف يساهم في دفع عملية التحول والتنمية وتعزيزها، وكان يؤمن أيضًا بأن النظام الإداري المركزي لا يوفر البيئة الصالحة والملائمة لنجاح التجربة الديمقراطية ورسوخها.

وتحدى غاندي النظريات السياسية التي تدعو إلى “علمنة السياسة”، وتلك التي تدعو إلى “تسييس الدين” وأدرك منذ البداية حساسية وخطورة الدمج أو الربط بين السياسة والدين، خصوصًا في المجتمعات متعددة الأديان والمعتقدات الدينية كالهند، وما قد يؤدي إليه ذلك الربط من أثر سلبي على الحريات والأقليات والحقوق الفردية والجماعية، إلى جانب ترسيخ انشقاق قوى المجتمع وتقوقع وتخندق مكوناته الدينية وتشتيت جهودها وبعثرة عطائها ومساهماتها، إلا أنه كان في الوقت نفسه من بين أوائل المفكرين في العصر الحديث الذي رفض القطيعة والفصل بين الدين والسياسة.

وفي هذا الصدد تحضرني كلمات معبرة تنسجم مع هذا الفهم قالها، بعد عقود من وفاة غاندي، المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي، في إحدى محاضراته عندما قال “أتمنّى أن يصل الدين إلى أهل السياسة، وألا يصل أهل الدين إلى السياسة”.

 

تحكم في مصطلح “اللاعنف” وحوره ثم طوره إلى نظرية

أصبح بؤرة ارتكاز فكره السياسي ومنطلق حراكه الوطني

أثبت غاندي براعته الفكرية وحنكته القيادية عندما تحكَّم في مصطلح “اللاعنف” وحوَّره ثم طوره إلى نظرية وفلسفة أصبحت بؤرة ارتكاز فكره السياسي ومنطلق حراكه الوطني، بعد أن أردفها ببرامج وخطط تنفيذية، وجعل الإضرابات والمسيرات السلمية وعدم التعاون والعصيان المدني أدواتها الرئيسة.

وقد راهن غاندي على الوسائل السلمية وأسلوب اللاعنف عندما كان العالم من حوله يتحدث بلغة أخرى، وهي لغة العنف والقتل والدم والدمار، فقد تزامن طرح غاندي السلمي مع فترة الحروب الكونية والاستعمار والنازية والفاشية.  بالنسبة إليه، فإن العنف هو أم الكبائر، لا مكان ولا مكانة له، ولا مجال لقبوله، مهما كانت متانة وصلابة المبررات.

 

 

“أنا لا أعتمد على الطرح الأكاديمي والنظري، إن العمل والإنجاز هما معياري”.

 

غاندي