+A
A-

الروائية فتحية ناصر لـ”البلاد”: ما يطلق عليه اسم “قضايا المرأة” أصبح مصدر رزق للكثيرين

روائية فيها سمات التجديد والعمق والأصالة، وتهوى نسف الفلك واكتساح رقعة الشطرنج، إنها مغرمة دائمًا بجدلية الصراع المستمر بين الإيمان والأخلاق، ومغرمة أيضًا بتلمس النظرة المعقولة للأشياء. أبرز سمات روايتها قدرتها على إحداث الدهشة وطرح السؤال الجديد، الذي قد يحمل في ثناياه انبهارًا غريبًا.

إنها الروائية البحرينية فتحية ناصر التي نحاورها وهي كالنجمة في بركة ماء:

 

في رواياتك شخصيات كثيرة تتصارع مع إيمانها وأخلاقها ما تعليقك؟

نعم، فأنا أتساءل كثيرًا عما يجعلنا ما نحن عليه. ما الذي يصنعنا، نحن الذين نولد مخلوقات حسنة النوايا؟!.. كأننا نتعلم - مع الوقت - كيف نصبح أشرارًا. كيف تغيرنا الحياة؟، ومتى تتحول تلك البراءة التي ولدنا عليها إلى كل تلك الصفات المتباينة للناس، فيصبح البعض خائنين، والبعض كاذبين ومنافقين؟!.

إننا نكبر ونرى المخطئ لا يعاقب، بل يكافأ! ونرى المحسن يُنكر إحسانه، والمعترف بخطئه يعاقب لصدقه، فنكتشف أن الأخلاق كانت مجرد “أنشودة تربوية” تعلمناها في المدرسة، ولكننا في الحياة لا نرى سوى عكسها!! وهنا يبدأ الصراع.. أنبقى أبرياء نتلقى الضربات ونتعلم الصبر والتسامح، أم نصبح “أقوياء”، جبارين، يخافنا الآخرون فيكفّوا أذاهم عنا؟

 

أشعر صحافيًّا وناقدًا أن هناك مرحلتين في حياة الروائية فتحية ناصر وأنت تعتبرين المرحلة الثانية تعبر عنك، فهل تستطيعن تفسيرها لنا؟

في المرحلة الأولى كانت هناك الكاتبة فقط. فكان همي الأكبر وقتها التعبير باللغة، وكنت أتيح لنفسي وقتها الفرصة لتجريب مختلف أنواع الكتابة، فاختبرت الشعر، وكتابة السيناريو والمقالات، ولكنني كنت وما أزال - حينها - لا أحمل غير هم الكتابة.

بعد ذلك، بدأت بالتوجه لمناطق إبداعية أخرى، فجربت التمثيل للتلفزيون ووقفت على خشبة المسرح، كما كانت لي محاولة متواضعة في الإخراج، وأحاول أيضًا أن أحظى بقدر من الخبرة في مجال الموسيقى. وأنا أرى أن هذه التجارب تعود في النهاية لتخدمني كثيرًا ككاتبة. فأولاً هي تجربة لي لأشكال مختلفة من التعبير، وثانيًا هي تعرفني على الكثير من الناس الذين هم مادة الأدب الأولى، وهم - بشخصياتهم المتباينة وحكاياتهم المختلفة - يوفرون للكاتب مواضيع مختلفة يتناولها، بشكل أو بآخر، في أدبه، الشيء الذي يغني تجربته ويوسع آفاق رؤيته. وربما يثيرون أيضًا لدى الكاتب أسئلة عظيمة يطرحها في رواياته، ما يحافظ على حماسه ويبقي شعلته متوهجة. لا يمكن لأحد أن يختبر بنفسه كل تجارب الحياة! لذا فالتعرف على التجارب الإنسانية للآخرين أمر مهم للكاتب.

ثالثًا، وعلى الصعيد الشخصي، فإنني بقدر ما أخوض من تجارب جديدة فإنني أتجنب الشعور بأنني قديمة في الحياة، وأحصل على طاقة متجددة.

 

هل تعتقدين أن الأجيال السابقة من الأدباء تقوم بدورها لرعاية الجيل الجديد وتمهد أمامه الطريق؟

نعم، فأنا لا أنسى كيف مدوا لي يد العون، وكم وجدت منهم ترحيبًا وقبولاً حينما كنت أخطو في المشهد الثقافي خطواتي الأولى، الصغيرة، المتعثرة، والخجلى. أشعر أني محظوظة لذلك. ممتنة أنا خصوصًا للروائي والسيناريست فريد رمضان، الذي هو والدي الروحي أدبيًّا وسينمائيًّا، وللفنان الأديب والمخرج خليفة العريفي، وهو والدي الروحي مسرحيًّا وفنيًّا، وأول من قدمني للمسرح. كما لا يمكن أن أنسى الصديق الروائي، والقاص النشط عبدالعزيز الموسوي، الذي كان وما يزال يحمل هم نشر الثقافة والأدب على كتفيه، عبر إدارته لموقع متكأ الثقافي سابقًا، وعبر أنشطته المختلفة المستمرة.

 

أتوجد - في رأيك - أزمة نقد بالنسبة للجيل الجديد، أم أزمة عمل جيد يفرض نفسه ويلفت الانتباه إليه؟

بل إن الأزمة الحقيقية اليوم هي أزمة (تكنولوجيا) إن جاز لي القول. فالنقد الأدبي لم يعد وحيدًا على الساحة، وهو لم يستطع - ولا أظنه يستطيع - مجاراة المد الإعلامي الذي أخذت به وسائل التواصل الاجتماعي تسيطر على ألباب الناس. فكم عدد الناس الذين يتابعون وسائل التواصل الاجتماعي يوميًّا؟ وكم عدد هؤلاء الذين قد يقرأون مقالاً - ولو قصيرًا - لناقد يتكلم فيه عن كتاب ما؟. كم من الناس سيطالعون مجلة أدبية متخصصة أو حتى يتطفلون على عمود واحد من صفحة ثقافية أسبوعية في أي صحيفة، في مقابل من يقضون ثلاثة أرباع يومهم قابعين أمام شاشة الموبايل يتصفحون الإنستغرام والتويتر وغيرهما؟

وسائل التواصل الاجتماعي بات بوسعها اليوم أن تجعل أي شخص كاتبًا شهيرًا بين عشية وضحاها، حتى لو كان ذلك الشخص رديء الإملاء أو يكتب باللهجة العامية أو حتى ليس لديه ما يقوله!!

مع ذلك، فإنني أؤمن بأن الأعمال الجيدة لا بد إلا أن تكون موجودة. فقط، أصبح العثور عليها - في مثل هذه الظروف - أصعب.

 

هل تعتقدين أن هناك شكلاً قديمًا وشكلاً حديثًا للرواية، وما مفهومك للرواية؟

الرواية هي الفن الأقرب إلى داخل النفس البشرية. فإذا كان الرسم والسينما هما أقرب الفنون للعين والبصر، حيث كل منهما يتعامل بالصورة، فإن الرواية هي المرآة التي تخبرك بما لا يمكن أن تراه في أي صورة. هي تبصر، وتبصّرك بما لا يرى بالعين أو يلمس بالحواس، ولذا فهي وحدها القادرة على جعلك أكثر تواصلاً مع نفسك من الداخل. حينما أحس الإنسان الأول بحاجته للتواصل بدأ يرسم، ولكن ذلك لم يكن يكفي، فاخترع الكتابة. لأنه بالكتابة يعبر عما لا يستطيع رسمه، وينقل الإحساس الذي لا يمكن أن يُرى عبر الصورة.

روائيًّا، أنت ترى ما بداخل شخوصك وتسمع ما تقوله لنفسها. تحلل دوافعها وتتفهم ردات فعلها. لكن “الشكل الجديد” لرواية اليوم بات يعمد إلى التحريك السريع للأحداث والتركيز على أفعال الشخصيات وردود فعل الشخصيات الأخرى، دون الخوض كثيرًا في “داخل” أي شخصية. هذا النمط - برأيي - هو أقرب لأن يكون “سيناريو”.

 

عندما تمتد يد غير المختصين وغير الفاهمين لتحاول أن تخنق إنتاجًا أدبيًّا، فهي كارثة. ليست كارثة على واحد من الأدباء ولكنها كارثة على كل الأدباء وعلى الأدب. ما رأيك؟

نعم، وقد ذكرت شيئًا من ذلك حين تحدثت حول ما تفعله بالأدب برامج مثل وسائل التواصل الاجتماعي. لكنني أسارع إلى القول أيضًا بأنه بإمكان النقد أن يخنق الأدب كذلك، أو يقتل - مع سبق الإصرار - أديبًا ناشئًا، وهنا فإن الأمر يكون أسوأ. الفرق بين الحالتين هو أنه في حين يشجع الناس أصدقاءهم مجاملين فيحصدون الشهرة ويضيع آخرون يستحقون أيضًا الالتفات، فإن النقاد قد يكونون قساة أيضًا حد أن لا يروا في كاتب إلا عيوبه، وأحيانًا إلى حد أن يتجاهلوا تمامًا نتاجه الأدبي. هذه أيضًا كارثة كما ترى. ولكنني أقول بأن الأهم من كل شيء هو أن يثق الكاتب - في كل الأحوال - بقلمه، ويستمر بالكتابة.

إننا ومنذ نقرر أن ننشر ما نكتب، نكون وضعنا أنفسنا موضع تذوق وتقييم الناس من كل الفئات، وليس فقط المتخصصين. حين نكتب فإننا نطمح إلى الوصول إلى أكبر قدر من الناس والتواصل معهم، ولذلك فنحن نكتب بلغة يفهمونها ونحاول أن نجعل مفرداتنا وأبطال حكاياتنا قريبين منهم، فلماذا نستكثر عليهم بعدها أن يكون لهم رأي أو حتى اقتراح!؟.

الكارثة ليست في أن يتدخل في نتاجنا القراء العاديون، غير المتخصصين، ويُبدون آراءهم (وهنا أنا أتحدث عن الناس الذين قرأوا بالفعل منتجك الأدبي وليس أولئك الذين لا يربطك بهم إلا حياة وهمية عبر مواقع افتراضية) !. بل الكارثة هي في أن يحاول المتخصصون - متسلحين بنظرياتهم - إخراجنا من دائرة الكتابة الجيدة أو إلقاءنا في دائرة العتمة، فقط لأن أسلوبنا في الكتابة لم تنطبق عليه أيٌ من النظريات التي عرفوها!.

تميل الأديبات دائمًا إلى الإلحاح على عبودية المرأة وانتحال الأعذار الأخلاقية. رأيك؟

لحياة المرأة خصوصية بلا شك. ولكنني - وحتى من حيث المبدأ - لا أرتاح لسماع مفردات من قبيل (مجلة المرأة) و(برنامج المرأة).... وكل ما شابه ذلك من تسميات! أشعر بأنها - بحد ذاتها - تعزز فكرة سلبية عن المرأة: إنها كائن مختلف، معقد، يحتاج كتالوجًا ليفهمه الآخرون.. هي ليست “إنسانًا” يمكن لإنسان آخر “هو بالطبع - الرجل - في هذه الحالة” أن يتواصل معه بسهولة!.

لماذا لا توجد برامج للرجل، ومجلات وغيرهما، بكثرة ما هو موجود للمرأة؟؟ وعم يا ترى تتكلم برامج الرجل، إن وجدت؟؟: عن صناعة الأموال وعن السيارات والرياضة... عن أشياء وهوايات يحبها الرجل ويسعى إليها “من أجل نفسه”... أما مجلات وبرامج المرأة فهي تعلمها كيف تعتني ببشرتها وتضع مكياجها وتلبس (على الموضة)، لكي تلفت في النهاية نظر “الرجل”. (في أحسن الأحوال قد تعلمها الطهو أيضًا، لأن الطعام هو “أقرب الطرق لقلب الرجل”)!.

الهدف - في نهاية المطاف - هو - دائمًا - الرجل. إذن فكل تلك الاستراتيجيات لا تعدو كونها أسلوبًا جديدًا لـ “تسليع المرأة”، والتأكيد على (عبوديتها). لقد قدمنا لها الهدية في غلاف جميل، هذا كل شيء!.

إننا نؤكد لها أن “الإنسان كان رجلاً أو لا.... “ ثم أصبح هناك شيء (شاذ) اسمه المرأة! وهذا (الشاذ) له لغة أخرى نخاطبه بها، وله إدراك مختلف، لذا فلا نستطيع أن نوجه له الخطاب كما نخاطب (الإنسان) العادي!.

إننا نغرس في “لا شعورها” أن كل ما يجوز له أن يهمها كـ (إنسان من نوع الأنثى) هو تلك الأمور السطحية لأن دورها ينحصر بأن تكون مصدر سعادة الرجل وبهجته.... وما يوجعني حقًّا هو أن النساء أنفسهن انجرفن مع هذا التيار، ويصدقنه بشدة!! بدون السعي لاستيعاب الرسائل المبطنة التي تقنعهن بها تلك البرامج والمجلات.

من ناحية أخرى، فما يطلق عليه اسم (قضايا المرأة) أصبح (مصدر رزق) للكثيرين... فهو (الموضوع المفضل) الذي يضمن نجاحًا ما في سوق الإبداع، ما يشجع رؤوس الأموال للاستثمار فيه! والنجاح هنا مضمون حتى مع المعالجة السطحية والقصص النمطية المتكررة.

في الواقع إن ما تعانيه المرأة وما تحملته لقرون طويلة لا يستطيع أي رجل أن يصبر عليه يومًا واحدًا (ولو شرحت أكثر من ذلك لألفت كتابًا!). لكنني باختصار سأقول أن معاناة المرأة هي معاناة (إنسان) أولاً.

 

هل يمكننا القول أن الأعمال الأدبية والفكرية قابلة للتطبيق كجدول أو برنامج، خاصة إذا كنا نؤمن بتأثير الأدب في الواقع على المدى القريب أو البعيد؟

بالطبع فإن أجمل ما يمكن أن يحدث لأي كاتب وأي رواية، هو أن يتركا أثرهما في واقع ممتد عبر الزمان والمكان.. ولكن الأدب لا يترك أثره بطريقة (ابتلاع الأدوية) !! ولا يستطيع أن يعطيك جدول حمية غذائية تتبعه لتحقق أمنياتك في الرشاقة !. (لو فعل، فلربما أصلاً نفرت من وجوب اتباعه!).

إن أي عملية إبداعية لا تكون كذلك إلا بقفزها فوق الثوابت والجداول و”الواجبات”، لذا فمن الذكاء أن لا يعطي الكتاب قارئه تعاليم يطالبه باتباعها. بل، لتكن القراءة وما يترتب عليها من تغيير، نشاطًا فكريًّا مرهونًا بتأثير عاطفي (مزمن) يتركه الكتاب في نفس القارئ.

 

الإبداع الحق هو السمو بالمحلية إلى العالمية.. أين نحن من هذا؟

لا أدري حقًّا إن كان ممكنًا أن نصل للعالم، على الرغم من أننا لم نستطع بعد أن نصل إلى بعضنا !!. نعم، للأسف، فهناك شيء لا أفهمه يعيق تواصلنا، نحن أبناء البلد الواحد، وتحديدًا، أدباء ونقاد.

فأنا ألاحظ أن نقادنا - في أغلبهم - يحتفون كثيرًا بالأدباء الغربيين لطرحهم حضارتهم ومعتقداتهم وثقافتهم، ولكنهم إذا وجدوا رواية لكاتب من وطنهم يتكلم عن حياة طبيعية لمواطن عادي انتقدوه وتحدثوا عن أهمية “العولمة” وذوبان الفوارق من أجل الوصول لكل العالم!.

حين يؤلف كاتب غربي رواية تاريخية من نسج خياله يُبجّل. وإذا كتب مواطن لهم رواية تاريخية تساءلوا لماذا على الكاتب أن يبتعد عن هموم الناس - الذين هم أولى أن يكتب لهم - ويبني لنفسه مدنا، وأوطانا من خيال!؟.

حين يترجم كتاب كبير، لدان بروان مثلاً أو للروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، فإنه يتلقف ويُحتضن بلهفة بين أذرع النقاد، وتكتب الإشادات حوله. يصبح اعتناؤه بالتفاصيل، ودقته في الوصف وطول نفسه في الكتابة وغير ذلك محل إشادة، ودعوة لأن يتخذ هذا الكاتب “قدوة”. ولكن حين يكتب أديب بحريني كتابًا كبيرًا فإن أول تعليق يصدر من ذات النقاد - بدلا من الإشادة بالجهد المبذول - هو: “لا أحد سيقرأ كل ذلك” وأن “تلك التفاصيل لا داعي لها” وأن “الوصف الكثير والدقيق لا أهمية له” وهو “أسلوب قديم من أيام الجاهلية ولم يعد مرغوبًا به اليوم”!!.

بأية حال، فالنقد ليس هو المشكلة الوحيدة في حياة الكاتب. بل لعله يكون - في الواقع - أصغر المشاكل!!.

فهناك مشكلة دور النشر التي لم تعد تهتم بتوزيع الكتاب بأمانة، طالما المؤلف قد دفع لها مقدمًا من المال يرضيها لتكون رابحة في الصفقة. ولذا فهي لم تعد تعتبر الكتاب ابنًا لها ولا هي مسؤولة عن نشره “رغم أن اسمها دار نشر”!.

إن مؤسسات النشر في العالم الآخر تفعل كل ما بوسعها لتصنع من أدبائها نجوم ثقافة، حتى لو كانت مواهبهم متواضعة! فخلف كل كتاب تلقى إشادات عظيمة كتبت حوله (حتى لو قرأته واكتشفت أنه لا يستحق شيئًا مما قيل فيه) !!. أما عالمنا العربي فهو على النقيض تمامًا: يفعل كل ما بوسعه لحمل أعظم المواهب على اليأس في النهاية، والانطفاء!.