+A
A-

"البلاد" في سانت بطرسبرغ .. جوهـــرة الشمـــال الروســي

بدعوة كريمة من قناة “RT” الروسية، زارت صحيفة “البلاد” مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، التي تعد واحدة من أروع المدن في روسيا والعالم والعاصمة الثقافية لروسيا، حيث تلتقي فيها عراقة التاريخ بسحر الطبيعة ورقيّ الثقافة. تقع المدينة في شمال غرب روسيا، وتُعرف بلقب “عاصمة الشمال” أو “فينيسيا الشمال”؛ بفضل شبكة القنوات المائية التي تعبرها، وجسورها البديعة التي تضفي عليها طابعًا فريدًا.
أسس المدينة القيصر بطرس الأكبر بالعام 1703 لتكون نافذة روسيا على أوروبا، وسرعان ما تحولت إلى مركز ثقافي وسياسي بارز، واحتضنت نخبة من الأدباء والفنانين والمفكرين، من أبرزهم دوستويفسكي وبوشكين وتشايكوفسكي.
وتزخر سانت بطرسبرغ بعدد هائل من المعالم التاريخية والثقافية، ولا يمكن الحديث عن سانت بطرسبرغ من دون ذكر مسرح مارينسكي، معقل عروض الباليه والأوبرا العالمية، الذي حافظ على مكانته كمركز فني رائد منذ القرن التاسع عشر، كما تُعد دار الأوبرا والمكتبة الوطنية من أبرز الصروح الثقافية التي تمنح المدينة طابعها الإبداعي.
تتمتع المدينة أيضًا بجمال طبيعي خلاب؛ إذ تمتد على ضفاف نهر نيفا، وتضم حدائق واسعة مثل حديقة الصيف والحديقة النباتية.
وتُعد القصور الإمبراطورية خارج المدينة من أبرز الوجهات السياحية، وعلى رأسها قصر بيترهوف، كما يُعد قصر كاثرين في تسارسكوي سيلو تحفة معمارية بتفاصيله الذهبية الشهيرة وغرفة الكهرمان المفقودة.
وتتوفر في المدينة بنية تحتية سياحية متطورة، من فنادق فاخرة إلى مطاعم تقدم المطبخ الروسي التقليدي والعالمي، بالإضافة إلى الأسواق الشعبية ومتاجر التحف.
ولا تغيب روح الفن عن شوارع المدينة، فالفنانون يعرضون لوحاتهم وموسيقاهم في الساحات العامة، ويمنحون الزائر تجربة ثقافية حيّة، كما تقام مهرجانات موسيقية وسينمائية ومناسبات ثقافية على مدار العام.
ببساطة، سانت بطرسبرغ ليست مجرد مدينة، بل تجربة متكاملة من التاريخ والحضارة والجمال، إنها مدينة تتنفس الفن، وتُبهر زوارها بتفاصيلها المعمارية، وأناقتها الأوروبية، ودفء شعبها؛ ما يجعل زيارتها واحدة من أجمل التجارب التي يمكن للمرء أن يعيشها.


كاتدرائية كازان
تُعد كاتدرائية كازان واحدة من أبرز المعالم الدينية والمعمارية في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، إذ تجذب الآلاف من الزوار سنويًا بجمالها وروحانيتها وتاريخها العريق، وقد استُوحي تصميمها الخارجي، خصوصا الواجهة ذات الأعمدة نصف الدائرية، من كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان؛ ما يمنحها طابعًا فنيًا فريدًا يجمع بين الطراز الروسي والكلاسيكية الأوروبية.
شُيّدت الكاتدرائية بين العامين 1801 و1811 تكريمًا لأيقونة السيدة العذراء “كازانسكايا”، إحدى أقدس الرموز في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وبعد انتصار الجيش الروسي على نابليون بالعام 1812، تحولت الكاتدرائية إلى رمز وطني للفخر والانتصار إذ دُفن فيها القائد العسكري الشهير ميخائيل كوتوزوف، وعُرضت فيها رايات وأسلحة فرنسية كغنائم رمزية.
وتتميّز كاتدرائية كازان بقبتها الفخمة وواجهتها ذات الأعمدة “الكورنثية” الضخمة، وتتزين من الداخل بأيقونات ولوحات دينية نادرة، إلى جانب ضريح كوتوزوف الذي يُعد من أبرز معالمها التاريخية، وتُقام فيها اليوم الصلوات اليومية والاحتفالات الدينية الكبرى؛ ما يجعلها مركزًا حيًا للحياة الروحية في المدينة.
ويُنظر إلى الكاتدرائية اليوم كواحدة من أيقونات سانت بطرسبرغ الثقافية والسياحية، إذ لا تكتمل زيارة المدينة دون المرور بها، والتأمل في تاريخها الغني وجمالها المعماري المذهل.


متحف الإرميتاج
يقع متحف الإرميتاج في قلب مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، وهو واحد من أكبر وأشهر المتاحف الفنية والثقافية في العالم. تأسس المتحف بالعام 1764 على يد الإمبراطورة كاثرين العظيمة، ويضم مجموعة هائلة تضم أكثر من 3 ملايين قطعة فنية وتاريخية متنوعة تشمل لوحات، منحوتات، قطع أثرية، مجوهرات، وأعمال فنية من مختلف العصور والثقافات.
ويعد الإرميتاج معلما بارزا للعمارة التاريخية، إذ يقع في قصر الشتاء الإمبراطوري الذي يعكس روعة الطراز الباروكي والنيوكلاسيكي، ويضم أجنحة متعددة تضم مقتنيات لا تقدر بثمن من أعمال كبار الفنانين الأوروبيين مثل ليوناردو دا فينشي، رافائيل، تيتيان، رامبرانت، وفان جوخ.
ويعكس المتحف تاريخ روسيا الإمبراطورية عبر معروضاته التي توثق فترات مختلفة من التاريخ، كما يعد وجهة سياحية وثقافية رئيسة تجذب ملايين الزوار سنويًا من جميع أنحاء العالم.
ويُعد الإرميتاج مركزًا عالميًا للفنون والثقافة، ويقدم برامج تعليمية وأبحاثًا تعزز فهم الفن وتاريخه؛ ما يجعله رمزًا للتواصل بين الثقافات وترسيخًا للتراث الإنساني المشترك، وبفضل ثرائه الفني وأهميته التاريخية يحتل متحف الإرميتاج مكانة بارزة على خريطة التراث الثقافي العالمي.


قصر بيترهوف
يقع قصر بيترهوف، المعروف بلقب “فرساي الروسية”، على بُعد 30 كيلومترًا غرب مدينة سانت بطرسبرغ على ضفاف خليج فنلندا، ويُعدّ من أعظم معالم روسيا التاريخية والثقافية والهندسية. أُنشئ القصر بأمر من القيصر بطرس الأكبر في أوائل القرن الثامن عشر ليكون مقرًا صيفيًا للعائلة الإمبراطورية، ورمزًا لانتصارات روسيا البحرية وطموحاتها الإمبراطورية، خصوصا بعد الانتصار في معركة بولتافا.
يمتد مجمّع بيترهوف على مساحة تُقدّر بـ 1500 فدان، ويضمّ قصورًا وحدائق وشلالات وكهوفًا، وأكثر من 170 نافورة مائية مذهلة تتوزع بأشكال هندسية ساحرة، أبرزها “النافورة الكبرى” التي يتوسطها تمثال شمشون وهو يفتح فم أسد.
يتميّز بيترهوف بنظام مائي هندسي معقّد وفريد من نوعه في أوروبا، إذ يعمل بالكامل بالاعتماد على الجاذبية دون استخدام أي مضخات؛ ما يجعله من معجزات الإبداع الهندسي في زمنه، وتُزيّن النوافير تماثيل مذهلة مطلية بالذهب، نُحتت على يد فنّانين روس وأوروبيين بارعين، وتحاكي في تصميمها قصصًا أسطورية كلاسيكية؛ ما يمنح المكان بُعدًا فنيًا ساحرًا يتجاوز كونه مجرد معلم معماري.
ويضم القصر الرئيس نحو 30 غرفة فاخرة مزينة بألوان ذهبية وتحف ولوحات ومفروشات فخمة، إلى جانب متاحف متخصصة عدة، كما تُقسَّم الحدائق إلى الحديقة العليا والحديقة السفلى، وتحتضن الأخيرة النوافير الأكثر شهرة وروعة.
وفي الحرب العالمية الثانية، تعرّض بيترهوف لدمار واسع النطاق نتيجة الاحتلال الألماني، غير أن أعمال الترميم التي بدأت فور انتهاء الحرب أعادت له رونقه السابق، وفي العام 1990، تم إدراجه على قائمة “اليونسكو” للتراث العالمي اعترافًا بقيمته التاريخية والفنية.
ويزداد القصر تألقًا في فصل الصيف، إذ تُنظَّم عروض مائية موسمية ومهرجانات موسيقية في الهواء الطلق، تترافق مع تشغيل النوافير في مشاهد استعراضية تجذب ملايين الزوّار من داخل روسيا وخارجها؛ ما يجعل بيترهوف وجهة سياحية لا تُفوّت وشاهدًا حيًا على عظمة التاريخ الروسي وروعة الفن الإمبراطوري.


الليالي البيضاء
تشهد مدينة سانت بطرسبرغ الروسية في هذه الفترة واحدة من أجمل الظواهر الطبيعية والثقافية في العالم، وهي “الليالي البيضاء”، التي تحوّل المدينة إلى مسرح مفتوح للضوء والفن والاحتفال.
وتُعد “الليالي البيضاء” ظاهرة فريدة تحدث سنويًا بين أواخر مايو ومنتصف يوليو، حيث لا تغيب الشمس تمامًا عن المدينة بسبب موقعها الجغرافي القريب من الدائرة القطبية، ويستمر ضوء النهار لساعات طويلة، حتى في منتصف الليل، فتغمر شوارع المدينة بأشعة ذهبية ناعمة تضفي على المشهد طابعًا ساحرًا ومميزًا.
وتحوّلت هذه الظاهرة إلى موسم ثقافي وسياحي رائد، تُنظَّم فيه مئات الفعاليات، من عروض الباليه والأوبرا في مسرح مارينسكي الشهير، إلى حفلات موسيقية في الهواء الطلق، ومعارض فنية، وجولات نهرية على متن القوارب عبر نهر نيفا.
ويبلغ ذروتها في ليلة 21 يونيو، حين تُقام احتفالات “أشرعة القرمزي”، وهي من أبرز الفعاليات التي تجذب الآلاف من السكان والسياح، وتجمع بين عروض الألعاب النارية، واستعراضات السفن، والعروض الموسيقية الحيّة.
وتحدث الظاهرة بسبب الموقع الجغرافي لسانت بطرسبرغ، القريبة من الدائرة القطبية الشمالية، حيث تميل الأرض في فصل الصيف بطريقة تجعل الشمس لا تنحدر تحت الأفق بما يكفي لحدوث ظلام حقيقي.
وتُعد “الليالي البيضاء” مناسبة تؤكد تفرد سانت بطرسبرغ، ليس فقط بجمال معمارها أو غناها الثقافي، بل أيضًا بقدرتها على تحويل الظواهر الطبيعية إلى مهرجانات إنسانية تجمع العالم حول الضوء، الفن، والفرح.