المملكة علمتني التواضع واحتضنتني قيادة وشعبا
السفير الفلسطيني لـ “البلاد”: البحرين نموذج إنساني نادر.. وسأغادرها وقلبي يحن إليها
-
عشت 15 عاما من أجمل مراحل حياتي.. وشعب البحرين محب لفلسطين بالفطرة
-
أدعو العالم لوقف حرب الإبادة في غزة.. ونتنياهو يقود حكومة لا تؤمن بالسلام
-
فلسطين موجودة في كل بيت بحريني.. ولن أنسى صورة الملك المعظم وهو يدعو لغزة مع أحفاده
بحسّه الإنساني، وهدوئه السياسي، وشغفه بقضية شعبه، أنهى السفير الفلسطيني لدى مملكة البحرين طه محمد عبدالقادر، مهمة دبلوماسية امتدت لما يقارب 15 عامًا، حيث كانت المنامة بيته الثاني، وميدانًا للتفاعل مع شعب وقيادة جعلت من فلسطين جزءًا أصيلاً من خطابها السياسي ومواقفها العربية.
في لقاء مع لـ “البلاد”، فتح السفير عبدالقادر قلبه وذاكرته، مستعرضًا أبرز محطات تجربته، والعلاقة المتجذرة بين البحرين وفلسطين، وتحدث بصراحة عن واقع القضية الفلسطينية، وتحديات اللحظة الراهنة، ومستقبل حل الدولتين، وحتى عن مشاعره الشخصية وهو يطوي آخر صفحة من إقامته في بلد وصفه بـ “النموذج الفريد إنسانيًا وسياسيًا”.
وفيما يلي أبرز محطات حديث السفير عبدالقادر لـ “البلاد”:
بيت دافئ
منذ أن وطأت قدمي أرض البحرين في أواخر العام 2010، شعرت بأنني في وطني. لا أقول ذلك من باب المجاملة الدبلوماسية، بل من تجربة عشتها بكل تفاصيلها. البحرين بلد لا يُشبه سواه. الانفتاح الرسمي، التواضع الملكي، ودفء العلاقات الشعبية جعل من مهمتي مهمة محب، لا موظف.
جئت إلى البحرين بعد مسيرة طويلة في منظمة التحرير الفلسطينية، كنت حينها مسؤولا سياسيا في لبنان، وتوليت مهاما معقدة على مستويات متعددة، لكن العمل في البحرين كان مختلفا، أكثر هدوءا، لكنه أكثر عمقا. تعلمت من كل لقاء، ومن كل مجلس، ومن كل قرار صادر عن قيادتها الحكيمة.
استقبال ملكي
واحدة من المواقف التي أرويها دائما كانت استقبالي من قِبل جلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة، برفقة الرئيس محمود عباس، بعد عشرين يوما فقط من وصولي، وقبل أن أقدم أوراق اعتمادي. تجاوز دبلوماسي كبير، لكنه يحمل في طياته رسالة حب لفلسطين، واحترام غير عادي لممثلها.
تلك اللحظة كانت إعلانا غير مكتوب بأنني بين أهلي، وأن العلاقة بين البحرين وفلسطين أكبر من المراسم والبروتوكولات. ومنذ تلك اللحظة لم أشعر يوما أنني سفير في بلد مضيف، بل كنت ممثل شعب في حضن شعب.
15 عاما
خلال 15 عاما، تطورت العلاقات الثنائية بين فلسطين والبحرين على نحو غير مسبوق. شهدنا توقيع بروتوكولات تعاون في مجالات الثقافة والتعليم والإعلام، وشاركنا في فعاليات عربية ودولية كان للبحرين فيها موقف مشرف وداعم لفلسطين، سواء في الجامعة العربية أو الأمم المتحدة.
جلالة الملك المعظم وسمو ولي العهد رئيس الوزراء لم يتركا مناسبة إلا وكان لفلسطين فيها حضور ودعم مباشر. العلاقة بين جلالة الملك المعظم والرئيس محمود عباس ليست علاقة رؤساء دول، بل علاقة أخوية صادقة تقوم على الثقة والوفاء، وهو ما لمسناه في كل محطة.
الجالية الفلسطينية
واحدة من أكبر مسؤولياتي كانت خدمة الجالية الفلسطينية في البحرين. عملنا على تسهيل أمورهم اليومية، من المعاملات إلى التعليم. ساعدنا المئات من الطلاب الفلسطينيين المقيمين في السعودية على الالتحاق بجامعة البحرين، وفي بعض الحالات بالكليات العسكرية والشرطية، بفضل دعم مباشر من القيادة البحرينية ووزاراتها.
هناك اليوم عشرات الخريجين الفلسطينيين الذين يعملون أطباء ومهندسين ومحامين في فلسطين والخارج، وهم خريجو مؤسسات بحرينية. هذا فخر للبحرين قبل أن يكون فخرا لنا.
مسيرات تضامنية
من أكثر ما يميز البحرين عن غيرها من الدول، هو الانسجام بين الموقف الرسمي والشعبي تجاه فلسطين. أثناء العدوان على غزة في أكتوبر 2023، شهدنا وقفات ومسيرات تضامنية أسبوعية تنظمها الجمعيات السياسية والأهالي، وكانت جميعها بتصاريح رسمية، ومتابعة مسؤولة من الجهات الأمنية، دون تضييق أو تقييد.
هذا الانسجام نادر في العالم العربي. ففي دول أخرى، يكون الحراك الشعبي مع فلسطين، لكن الموقف الرسمي صامت أو حذر. البحرين كانت واضحة: من القيادة إلى المواطن، الجميع يقف مع فلسطين.
حرب غزة
الوضع في فلسطين، لاسيما في غزة، مأساوي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. نحن لا نواجه فقط عدوانا عسكريا، بل مشروع إبادة وتطهير وتهجير منظم. حكومة نتنياهو - بن غفير - سموتريتش لا تؤمن لا بسلام، ولا بحل الدولتين، ولا بالدولة الواحدة.
المطلوب الآن قبل أي حديث سياسي هو وقف شلال الدم. آلاف الأطفال يموتون، وبيوت تُهدم على رؤوس ساكنيها. أين العالم؟ أين مجلس الأمن؟ كيف يُعقل أن تستخدم دول كبرى حق الفيتو ضد قرار بوقف الحرب؟ إنها قمة الوقاحة السياسية، وإنسانية ميتة.
حل الدولتين
نعم، ما يزال حل الدولتين هو المخرج الوحيد العادل للصراع. العالم بأسره يتفق على ذلك، من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي إلى المبادرة العربية. لكن الطرف الإسرائيلي يرفض، ويدعم حكومة تقود المنطقة إلى مزيد من الدماء.
نقول للمجتمع الدولي: من لا يريد حل الدولتين، فليقدم بديلا. دولة واحدة؟ يرفضون. تهجير؟ لن يقبل به الشعب الفلسطيني. إذا، ما الحل؟ إنهم لا يريدون حلا، بل يريدون السيطرة الكاملة. هذا المشروع لن يمر، لأن الشعب الفلسطيني متجذر في أرضه، ولن يرحل.
سأفتقد البحرين
ما سأفتقده؟ كل شيء. البحرين ليست بلدا فقط، بل أسلوب حياة. سأفتقد المجالس، واللقاءات، والود العفوي، والابتسامات الصادقة. أولادي وأحفادي ما يزالون في البحرين، وأنا عائد إلى فلسطين، لكن البحرين ستظل في القلب.
كل دبلوماسي غادر البحرين، سواء كان عربيا أو أجنبيا، حمل معها ذكرى طيبة، ورغبة في العودة. وهناك من لم يغادر أصلا رغم انتهاء مهامه. وهذا ليس صدفة، بل لأنه بلد يعطيك شعورا بالأمان والانتماء.
رسالتي للبحرينيين
رسالتي الأخيرة لأهل البحرين، قيادة وشعبا: هذا الوطن جوهرة نادرة، فحافظوا عليه كما تحافظون على نور أعينكم. أنتم نموذج فريد في العالم العربي، من حيث الانفتاح، والتسامح، والمحبة. بلادكم تضع فلسطين في القلب، ونحن نضع البحرين في قلب فلسطين.
وهذا الوطن يستحق الوفاء. حافظوا عليه، وكونوا له كما كان لكم. أنتم شعب محب، مضياف، كريم في الروح قبل اليد. أتمنى أن تبقى البحرين منارة في المنطقة، وأن نلتقي ذات يوم في القدس، عاصمة فلسطين الأبدية، ونصلي فيها جميعا. كما قال الشاعر: يرونها بعيدة.. ونراها قريبة.. وإنا لصادقون.