العدد 6060
الأحد 18 مايو 2025
banner
زمن الضجيج: كيف فقد النقد معناه؟
الأحد 18 مايو 2025

النقد كحقل ألغام
في زمنٍ تتقاطع فيه الأصوات وتتسارع الردود كدوامة من الأفكار المتضاربة، سواء في فضاء رقمي مزدحم بالنقاشات أو في مجالسنا اليومية، باتت كلمة “نقد” مُثقلةً بمدلولاتٍ تتجاوز معناها الأصلي، حتى تحوّلت إلى سلاح يُستخدم وفق المزاج والانفعالات. لم يعد النقد وسيلةً للارتقاء بالأفكار والآراء والحوار، بل صار يُفسَّر في كثير من الأحيان كطعنة شخصية أو إعلان عداوة.
وسط ضجيج النقاشات، قد يبدو النقد كمن يسير في حقل ألغام؛ خطوة خاطئة قد تُفجّر الحوار في فوضى من الأحكام المتسرعة والانفعالات المتباينة. ومع تصاعد وتيرة الحوارات الساخنة، تحوّل من مساحة للتأمل وإعادة تشكيل القناعات إلى محفّز للتوتر، ومن جسرٍ للتفاهم إلى مغامرة محفوفة بالمجازفة.
وهنا، يبرز – في اعتقادي – السؤال الأهم:
هل ما زال النقد قادرًا على أداء دوره البنّاء؟ أم أنه بات رهينةً لمزاجاتنا وهشاشتنا، فانقلب من مساحة للارتقاء بآراء والحوار إلى أداةٍ للتجريح، والتهكّم، وربما حتى للتضليل؟ 
لماذا نخلط بين الفكرة وصاحبها؟  
المشكلة ليست في النقد ذاته، بل في الطريقة التي يُستقبل بها. كل رأي لا يشبهنا يُفسَّر كرفض لنا، وكل ملاحظة تُؤخذ كتهديد لكرامتنا. مع مرور الوقت، أصبحنا نُدير نقاشاتنا كأنها نزاعات شخصية، لا مساحات للفهم أو التطوير.
في المجتمعات التي لم تتعوّد بعد على تقبّل الاختلاف بوصفه إثراءً، يُعامل النقد وكأنه موقف عدائي بدلاً من كونه فرصة للإرتقاء بأفكار ووجهات النظر. وهكذا، يصبح الحوار مجرد ساحةٍ للمواجهات، حيث يُربط النقد بالولاء الشخصي بدلًا من كونه أداة لتحسين الأفكار.  
هل ننتقد لنفهم أم لنهاجم؟
من الطبيعي أن نختلف، فالاختلاف جزء من طبيعة الإنسان وتنوعه. لكن المشكلة ليست في وجود اختلاف الآراء، بل في الطريقة التي تتم بها إدارتها. النقد الحقيقي ليس رفضًا أو مواجهة، بل فرصة لاختبار مدى قوة الفكرة بمعزل عن صاحبها.
وهذا يطرح تساؤلات جوهرية:
متى يتحوّل النقد من أداة للفهم إلى وسيلة للهجوم؟  
كيف نُميّز بين من ينتقد الفكرة وبين من يستهدف صاحبها؟  
هل نقدنا نابع من موضوعية، أم أنه أحيانًا يُدار بردود فعل وانفعالات شخصية؟  
 كيف أصبح النقد مجرد ردّ فعل؟  
لم تعد وسائل التواصل مجرد منصات للتعبير، بل أصبحت تُعيد تشكيل مفهوم النقد ذاته. ففي عصرٍ يُغلّب التفاعل اللحظي على التأمل العميق، لم تعد الفكرة المتزنة تحظى بالتقدير، بل الصوت الأعلى والأكثر إثارةً للجدل.
تحوّل النقد من أداة للتقويم والتفكير، إلى وسيلة لجذب الانتباه وحصد التفاعل، ولو على حساب الدقة والاحترام. ومع هذا التحوّل، بات النقد عرضةً للابتذال، حيث تتلاشى الحدود بين المعلومة والانطباع، وبين الرأي والمعرفة.

مشاهد يومية تُسيء إلى النقد
في حياتنا اليومية، سواء في المجالس أو الاجتماعات أو لقاءات العائلة، لا بد أن نواجه بعض المشاهد التي تشوه مفهوم النقد وتخرجه عن سياقه الحقيقي. ففي لحظات عديدة، نجد أنفسنا في مواقف يختلط فيها النقد البناء بالهجوم الشخصي، وتغيب فيها الموضوعية. لنتأمل معًا هذه المشاهد التي تبرز هذه الظاهرة في أشكالها المختلفة:

 عندما يختبئ الجهل خلف قناع النقد  
ليس كل من يمتلك رأيًا ناقدًا يمتلك اسس النقد الفعلي. في كثير من الأحيان، يُمارَس النقد من موقع العجز لا الفهم، ومن موقع الانفعال لا التأمل. البعض يتستر بعباءة النقد ليُخفي جهله، أو ليُفرغ مشاعره المكبوتة في الآخرين، مما يبدد جوهر النقد كممارسة معرفية. 

 من الاستعراض إلى الانتحال المعرفي  
أحيانًا يتخفّى الجهل في هيئة ناقد، مستخدمًا مصطلحات معقّدة أو مسقطًا أحكامًا عامة دون معرفة حقيقية بالسياق. النقد هنا لا يكون إلا استعراضًا، حيث يبدو الناقد وكأنه يعبّر عن موقف معرفي، بينما هو في الواقع يكرّر ما سمعه دون تمحيص.
في زحمة النقاشات، يتجلّى التناقض بين من يملك فهمًا حقيقيًا تراكم عبر التجربة، وبين من يكتفي بالحفظ السطحي ويظن أن قراءة مقال أو مشاهدة مقطع كافٍ لتقديم رؤية ناضجة. 

 حين يتحوّل الجميع إلى “خبراء” 
المفارقة تتجلى عندما يتحوّل النقد من مساحة للإرتقاء المعرفي إلى ميدان لاستعراض الثقة الزائفة. تجد من يتحدث في الطب وكأنه طبيب، وفي الدين كأنه فقيه، وفي السياسة كأنه مستشار عالمي، وفي كل مجال كأنه العارف بكل شيء، متنقّلًا بين التخصصات بلا فهم حقيقي.
في عصرٍ تتدفّق فيه المعلومات بسهولة، بات من السهل أن يتظاهر البعض بالمعرفة، لكن النقد الجاد لا يُبنى على انطباعات سريعة أو تعليقات سطحية، بل يحتاج إلى سنوات من الوعي والممارسة. 

عقدة النقص أو الشعور بالغيرة 
ليس كل نقد نابعًا من رغبة في التصحيح أو إثراء الحوار، ففي كثير من الأحيان يكون النقد مدفوعًا بعوامل شخصية كامنة، مثل عقدة النقص أو الشعور بالغيرة. النقد الذي ينبع من هذه المشاعر لا يكون عادلاً، بل يتحوّل إلى منافسة غير متكافئة، حيث يسعى الناقد إلى إثبات تفوقه أكثر من سعيه إلى تحقيق فهمٍ أعمق.
الغيرة قد تدفع البعض إلى انتقاد الآخرين دون إنصاف، ليس لوجود خلل حقيقي، بل لأن نجاحهم يثير مشاعر التحدي أو عدم الرضا الداخلي. وعقدة النقص، من جانبها، تجعل الفرد يميل إلى مهاجمة الآراء أو التقليل من إنجازات الآخرين، لا لتطوير الفكرة، بل لملء فراغ داخلي أو تعويض شعور بالضعف.
النقد العادل يُبنى على تحليل موضوعي، أما النقد المشوّه فهو أداة إسقاط، حيث يستخدمه البعض لتحريف الحوار من نقاش معرفي إلى مواجهة شخصية، تغلب عليها الرغبة في إثبات الذات أكثر من الوصول إلى الحقيقة.

حين يتحوّل النقد إلى سخرية وتنمر
أحيانًا يُغلف النقد بقناع الرأي الشخصي، بينما يخفي في داخله رغبة في التنمّر لا في الإثراء. في العديد من الحوارات، سواء كانت في المجالس، الاجتماعات، أو حتى النقاشات الإلكترونية، يتحوّل النقد إلى وسيلة للسخرية أو التسلية على حساب الآخرين. وعندما يُقدَّم التهكّم على أنه وجهة نظر، أو تُستخدم التعليقات الجارحة لإضحاك من حولنا، يضيع الهدف الحقيقي من النقد، ويتحوّل إلى أداة لتقليل شأن الآخرين بدلًا من أن يكون وسيلة للفهم والتطوير.
ومع مرور الوقت، يتحوّل هذا الأسلوب إلى عادة، تفقد فيها الكلمات قيمتها، ويخرج الحوار عن مساره. بدلاً من أن يكون النقاش فرصة لتبادل الأفكار وتطويرها، يصبح ساحة للجدال والانفعال، وأحيانًا للتنمّر المبطّن. وهكذا، تضيع الفكرة، وينتشر التوتر، ويفسد الجو الذي كان من المفترض أن يكون بيئة للحوار البنّاء.

حين يُحصر النقاش في ميزان الصواب والخطأ
كثيرًا ما تتحول نقاشاتنا إلى صراع بين من هو على حق ومن هو مخطئ، وكأن الآراء لا تحتمل إلا حكمًا واحدًا. هذا الأسلوب يجعلنا نغفل أن بعض الآراء تعتمد على الموقف والتجربة أو حتى الزمان والمكان والظرف والشخوص، وليست دائمًا صحيحة أو خاطئة بشكل مطلق. النقد في جوهره ليس لإثبات من الأفضل، بل لفهم الفكرة من أكثر من زاوية. المشكلة تبدأ حين نستعجل في الحكم على الآخرين، ونرفض التفكير خارج ما نعرف. والأسوأ أن تختلط الإشاعات بالحقائق، وتتحول الأفكار المغلوطة إلى قناعات، فنتوقف عن التفكير ونكتفي بتكرار ما يُقال لنا.

بين الحياد والادّعاء 
ادعاء الحياد خدعة أخرى يتخفى وراءها بعض النقاد. فالناقد ليس آلة تفصل العاطفة عن العقل، بل إن إنكاره لانحيازاته قد ينتج نقدًا مضللًا. الاعتراف بالتحيّزات لا يُبطل الموضوعية، بل يجعلها أكثر وضوحًا ونزاهة، لكن حين يتستر البعض وراء قناع الحياد، يمنحون أنفسهم سلطة مطلقة للحكم دون مساءلة. 

 حين يصبح الصمت تواطؤًا  
النقد ليس دائمًا سلبًا، فأحيانًا يكون الصمت هو المشكلة. التغاضي عن الخلل، أو تجاهل السلوكيات الضارة بحجة الحفاظ على الهدوء، يرسّخ الإشكالات ويمنحها شرعية ضمنية. النقد البنّاء يزعج، لكنه يوقظ. فالنقد الحقيقي يمكن تشبيهه بالمعلّم الحكيم: يصحّح الخطأ دون أن يُهين، ويوجّه دون أن يُحبط.
أما حين يتحوّل النقد إلى تجريح، فسرعان ما يُغلق باب الحوار، وتضيع الفكرة في زحمة الأحكام والانفعالات. 

إعادة النظر في وظيفة النقد
كل تلك التصرفات والممارسات التي تطرقت إليها في هذا المقال، ورغم أننا اعتدنا على مشاهدتها أو تكرارها، فهي ليست مجرد تفاصيل هامشية يمكن تجاهلها. بل هي تشوهات تتراكم مع الزمن، تفقد النقد جوهره الحقيقي وتحوّله إلى أداة لتقليص الفهم والتقويم. هذه السلوكيات تبدأ في المجالس والحوارات البسيطة، ثم تتسرب إلى وسائل التواصل الاجتماعي وأماكن العمل، حتى تصبح جزءًا من ثقافتنا اليومية. مع مرور الوقت، تتحول إلى ممارسات مألوفة تُكرّس بيئة من الإساءة والتقليل من شأن الآخر، بدلاً من أن تكون أداة لتطوير الآراء وتعميق الأفكار. وبذلك، يفقد النقد وظيفته الأساسية التي تهدف إلى إثراء الحوار، ويصبح أداة للتجريح والإقصاء، بدلًا من كونه وسيلة للإرتقاء بآراء ومساحة لتفاهم أو التأمل وإعادة تشكيل القناعات.

النقد: وسيلة للبناء أو أداة للهدم؟
في عالم يزداد ضجيجه، يبقى النقد فعلًا نبيلًا حين يُمارس بوعي. المشكلة ليست في الاختلاف، بل في تحويله إلى خصومة. النقد البنّاء لا يُدين، بل يُوجه. فهل نحن مستعدون لسماع ما لا يعجبنا، فقط لأنه قد يُفيدنا؟
في نهاية المطاف، يجب أن ندرك أن النقد هو أحد الأسس التي تبني المجتمعات المتطورة. لكنه، لكي يؤدي دوره الفعّال، يحتاج إلى بيئة صحية ومفتوحة لتقبل الآراء المختلفة. يمكن لكل منا أن يسهم في تغيير مفاهيم النقد المزعجة إذا تعاملنا مع اختلافاتنا بحكمة وتفهم. إذا كان هدفنا هو التقدم، فيجب أن نكون مستعدين لأن نستخدم النقد وسيلة للارتقاء بالأفكار، لا لتحطيمها. فلنحترم الآراء المختلفة ونقدّم آرائنا بهدف الفهم والتطور، ولنكن دائمًا واعين لطريقة تأثيرنا في الآخرين، فالنقد ليس أداة للهدم، بل جسرٌ نحو بناء أفقٍ أوسع من الفكر والتفاهم.

—” انتهى “—

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .