العدد 6055
الثلاثاء 13 مايو 2025
banner
زهايمر الابتكار المؤسسي .. هل نسيت المؤسسات كيف تبتكر... واكتفت بالاستهلاك؟
الثلاثاء 13 مايو 2025

 لم يعد خطر “زهايمر الابتكار” مقتصرًا على الأفراد، بل بدأ يمتد تدريجيًّا ليصيب مؤسسات وقطاعات حيوية بأكملها. ما نشهده اليوم ليس مجرد تباطؤ في الإبداع الذاتي، بل هو نسيان تدريجي لجوهر الابتكار نفسه. فكم من مؤسسة تتفاخر بتقنيات حديثة وأدوات رقمية، بينما في الواقع، لا تبتكر شيئًا جديدًا، بل تكتفي بالاستهلاك والنسخ والتكرار؟
من وجهة نظري، السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح ليس: “ماذا نستخدم؟” بل: “ما الذي أضفناه نحن؟ وما القيمة التي ساهمنا بها في بناء هذا الحل أو تحسينه؟” فالاكتفاء بالتخصيصات الشكلية، أو تفعيل ميزات إضافية، أو امتلاك التراخيص طويلة الأمد لا يعني بالضرورة أننا نشارك في تطوير الحلول المستوردة أو الجاهزة. كما أن الاستهلاك فقط لا يضمن إضافة قيمة حقيقية أو المساهمة في تحسين الحلول.
في هذا المقال، نسلّط الضوء على هذا الجانب الخفي من الظاهرة وكيف بدأ يتسلل إلى المؤسسات، دون أن تدرك المخاطر المستقبلية التي قد تُهدد استدامتها، سيادتها الرقمية، واقتصادها المعرفي.

حين يترنح الاقتصاد المعرفي
لم يعد اقتصاد اليوم قائمًا على الموارد الطبيعية وحدها، بل أصبح يستند إلى الأفكار، والتجارب، والبرمجيات، والعقول. في هذا السياق، تُعد القدرة على التفكير الإبداعي والتنفيذ الذكي ميزة استراتيجية لا غنى عنها.
لكن ما نشهده اليوم، للأسف، أن كثيرًا من المؤسسات فقدت تلك القدرة التي تجمع بين الابتكار الداخلي والتميّز التنافسي؛ وكأنها لم تعد قادرة على التعمّق في التفاصيل، أو فهم ديناميكيات السوق، أو التعلّم من أخطائها. وهو ما يدفعنا للتساؤل: هل فقدت المؤسسات قدرتها على مواكبة ذكاء السوق، أم أنها لم تملكها أصلًا؟ (اقرأ المقال كاملا بالموقع الإلكتروني)
تتحوّل تدريجيًّا إلى كيانات مستهلكة ومستوردة في سوق يزداد ذكاءً وشراسة، دون أن تسهم في إنتاج المعرفة أو تطوير قدراتها الذاتية. والنتيجة؟ اقتصاد معرفي مترنّح، يعتمد على الخارج أكثر مما يستثمر في الداخل.
الثمن الذي لا تراه دفاتر المحاسبة
الاعتماد المفرط على حلول جاهزة ومستوردة لا يعني فقط تباطؤ الابتكار، بل أيضًا هشاشة في مواجهة التغيير. كثير من الشركات تُنفق الملايين على أدوات لا تفهمها بالكامل، أو خطط لا تملك النضج لتطبيقها. وفي النهاية، مشاريع تتعثر قبل أن تنطلق، وميزانيات تُهدر على أفكار مستوردة لا تناسب البيئة المحلية.
حتى الأمن السيبراني لم يسلم من هذا الزهايمر. عندما تعتمد المؤسسات على أنظمة خارجية دون وعي حقيقي بكيفية عملها، تصبح الخصوصية بندًا شكليًّا في العقود، وليست قيمة مؤسسية حقيقية. وهذا يفتح الباب لاختراقات لا تأتي فقط من القراصنة، بل أحيانًا من الجهات المصممة لتلك الأنظمة ذاتها. عندما تعتمد المؤسسة بشكل كامل على أنظمة خارجية لا تستطيع إدارتها بشكل مستقل، فهي بذلك تسلّم مفاتيحها التقنية وأسرارها التجارية وأحيانًا بياناتها الحساسة لأطراف خارجية. وهنا لا نتحدث فقط عن خطر الاختراقات، بل عن فقدان السيادة الرقمية، وهو أمر في غاية الأهمية في هذا العصر.
ما لا يجب التنازل عنه
قد يكون أمر غير الواقعي أن نطلب من كل شركة أن تبدأ الابتكار من الصفر. في بعض الأحيان، قد يكون الابتكار الداخلي مكلفًا أو غير عملي على المدى القصير. ومع ذلك، هناك حد أدنى لا يمكننا التنازل عنه:
- يجب أن نفهم تمامًا ما نستخدمه، ولماذا نستخدمه.
- يجب أن نخطط لما بعد مرحلة الاستهلاك، لا أن نكتفي بالاستخدام المؤقت.
- يجب أن نعمل على تطوير ما يمكننا تطويره داخليًّا، بدلًا من الاعتماد المستمر على الحلول الجاهزة.
- يجب أن نضمن حماية معلوماتنا وخصوصيتنا، وأن نضعها في أولوياتنا.
- يجب أن نمنح الأولوية للحلول الوطنية التي تنمو وتدعم الاقتصاد المحلي.
وجود بدائل محلية ليس مجرد شعار، بل هو خيار استراتيجي يعزّز السيادة الرقمية ويقوي الاقتصاد الوطني. كل منتج وطني ناجح يعكس فرصة لتعزيز الاستقلال الرقمي ودعم الشركات الناشئة التي تبحث عن شريك يدعمها، لا مجرد مستهلك.

العدوى تتجاوز حدود الشركات
زهايمر الابتكار لا يصيب الشركات فقط، بل يمتد إلى الجامعات، والمستشفيات، وحتى المؤسسات الحكومية. كم من جامعة تكرّر نفس المناهج منذ سنوات؟ وكم من منشأة صحية تعتمد على برامج جاهزة دون وعي بمخاطر تسرب البيانات؟ وكم من جهة حكومية تستورد أنظمة كاملة دون أن تمتلك خطة واضحة لتطوير بدائل محلية على المدى الطويل؟
في اعتقادي، هذا المشهد يعكس عدوى فكرية تعيق التطوير الحقيقي، وتحاصر أي محاولة للنهوض بمستوى الوعي المؤسسي العام.
المؤسسة التي لا تبتكر… تفقد استدامتها
زهايمر الابتكار ليس مجرد مصطلح عابر؛ إنه وصف دقيق لحالة تفقد فيها المؤسسات قدرتها على الابتكار الذاتي، لتبدأ في تكرار نفسها بلا تفكير أو تجربة حقيقية، بلا قدرة على التكيّف أو المنافسة. وعندما تفقد المؤسسة هويتها الابتكارية، تتحول تدريجيًّا إلى نسخة مكررة من غيرها، مهما كانت مواردها أو قوتها.

من وجهة نظري، الطريق للخروج من هذه الدائرة يبدأ من الاعتراف بأن المشكلة موجودة فعلًا، ثم إعادة بناء قدرة الابتكار المؤسسية من خلال:
•    ثقافة السؤال: لماذا نفعل ما نفعل؟ وهل يمكن أن نفعل أفضل؟
•    تشجيع التجريب: حتى الفشل قد يكون أعظم ما ينتجه الفريق إذا تعلّم منه.
•    الاستثمار في البشر: فالعقول هي الوقود الحقيقي للابتكار، لا الأدوات ولا البرامج.

هل نملك الشجاعة لإعادة التفكير؟
إذا كنا جادين في بناء اقتصاد قوي ومؤسسات قادرة على الصمود، فلا بد أن نتعامل مع “زهايمر الابتكار” كتهديد حقيقي. لا يكفي أن نستهلك منتجات الآخرين، أو نكرر استراتيجيات لا تشبهنا. آن الأوان، في رأيي، لأن نعيد إحياء ثقافة الابتكار لا بوصفها خيارًا، بل كضرورة وجودية في عالم لا يرحم من ينسى كيف يبتكر.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .