+A
A-

تحقيق "البلاد": صيف 2024 يحرق 402 سيارة بين لهب الإهمال وشظايا العطور القاتلة

تسير السيارات على الأسفلت وكأنها تسير فوق فوهة بركان. وتشتعل من دون مقدمات، في وضح النهار، وأمام عدسات المارة، كأنها تذكرة موسمية بأن الصيف لا يرحم. ومع كل صورة تُنشر، تتزايد الأسئلة، ولا تأتي الإجابات. سيارات جديدة، صيانتها مكتملة، تحترق كأنها من ورق. وبينما تشتعل المركبات، تحترق معها الثقة، وتزداد الحيرة: هل الخلل في التصنيع؟ في التوصيلات؟ أم في غياب الوعي؟ 
تحقيق “البلاد” لا يكتفي برصد المشهد، بل يغوص في أسبابه، ويضع إصبعه على جرح مفتوح اسمه “سلامة المركبات في الصيف”.

أرقام مقلقة
تشير إحصاءات إدارة الدفاع المدني، إلى أن عدد حوادث الحريق التي تعاملت معها فرق الدفاع المدني وصل نحو 1258 حادثًا في صيف 2023، و1441 حادثًا في صيف 2024 بزيادة تقارب 15 %، بينها 402 حادثًا لحرائق المركبات في النصف الأول من 2024، ويعود السبب الرئيس في تسريع انتشار النيران بموسم الصيف إلى ارتفاع الحرارة والأحمال الكهربائية الثقيلة.

لحظات مرعبة
وفي هذا الصدد، تروي الإعلامية والأكاديمية د. سهير المهندي، لحظات مرعبة عاشتها حين اشتعلت النار فجأة في مقدمة سيارتها المركونة في مرآب المنزل، وامتد جزء منها إلى واجهة المنزل، ثم إلى مركبة كانت متوقفة بجوارها، إذ قالت “أنا أشد الناس حذرًا فيما يتعلق بمتعلقاتي وممتلكاتي التي أتركها في السيارة، إلا أن أقدار الله سبحانه وتعالى مكتوبة”.
وتابعت “سيارتي جديدة وقد أحضرتها من فترة قصيرة جدًا من الوكالة بعد عمل الصيانة الدورية اللازمة لها، وربما تكون المشكلة من خطأ ارتكبه العاملون في المحل نفسه؛ لأن ألسنة اللهب بدأت بالخروج من مقدمة السيارة وليس من داخلها، لذا من الواجب على الزبون أن يتفقد ويتفحص سيارته جيدًا قبل الاستلام، وإن كان الأمر يشكل صعوبة على بعض الأشخاص، ولاسيما غير الملمين بالسيارات”.

شرارة نار 
يقول الخبير في الصحة والسلامة المهنية إبراهيم ناصر، إن أسباب الحرائق تنقسم إلى حالتين، واحدة معروفة وأخرى غير معروفة، مشيرًا إلى أن من أبرز الأسباب المعروفة نسيان مواد قابلة للاشتعال داخل السيارة، مثل العطور، بخاخات الرذاذ (السبري)، أو الشواحن المتنقلة، إذ يؤدي تعرضها لدرجات حرارة مرتفعة، خصوصا في فصل الصيف، إلى تفاعلها وانفجارها بشكل مفاجئ؛ ما قد يتسبب في اندلاع حريق داخل المركبة.
أما فيما يتعلق بالحالات غير المعروفة، فأشار ناصر إلى أن بعضها يحدث حتى في السيارات الجديدة التي تُفترض فيها معايير السلامة العالية، موضحًا أن المشكلة قد تنشأ من إضافة بعض الإكسسوارات أو التعديلات غير الأصلية، مثل تركيب سماعات خارجية أو أجهزة إضافية لا تتوافق مع نظام السيارة الكهربائي.
ويؤكد ناصر أن هذه الإضافات، إذا لم تُركب بطريقة آمنة ومطابقة للمواصفات، قد تخرج عن نطاق الأمان المصمم من قبل الشركة المُصنّعة؛ ما يزيد من احتمالية حدوث تماس كهربائي يؤدي إلى حريق.
ويضيف أن لكل مركبة قدرة كهربائية محددة، وأي تجاوز لهذه الطاقة عبر تركيب ملحقات غير مناسبة قد لا تظهر مشكلته مباشرة، لكن مع مرور الوقت يُعرض السيارة لخطر الاشتعال.
ويبين ناصر أن السيارات تخضع لاختبارات أمان دقيقة قبل طرحها في الأسواق، وبالتالي فإن حدوث حريق في سيارة جديدة قد يشير إلى وجود إضافات غير معتمدة تم تركيبها بعد الشراء.

قصور التوعية 
على رغم تكرار هذه الحوادث، يرى مختصون أن هناك ضعفًا في التوعية المجتمعية بشأن أهمية فحص السيارات قبل دخول موسم الصيف، كما أن بعض السائقين يتجاهلون علامات التحذير مثل ارتفاع حرارة المحرك أو ظهور روائح احتراق خفيفة.
وفي هذا الإطار، يشير كهربائي السيارات أحمد سلمان إلى أن أحد أبرز أسباب اندلاع الحرائق في السيارات هو الإضافات الكهربائية غير الآمنة، مثل تركيب أجهزة صوتية (مسجلات) أو كشافات، دون الالتزام بالطريقة الصحيحة في توصيل الأسلاك، موضحًا أن أي خلل في تركيب الأسلاك قد يؤدي إلى تماس كهربائي؛ ما يتسبب في اشتعال السيارة لاحقًا.
ويضيف سلمان، أن من المشكلات الأخرى التي قد تؤدي إلى الحريق، هي تصلب أو تلف أنابيب السيارة (البيبات)؛ ما قد يؤدي إلى حدوث تسرب وحدوث اشتعال.
وشدد سلمان على أهمية أن تكون جميع الإضافات الكهربائية على السيارة من إكسسوارات وغيرها محسوبة من حيث قدرة السيارة على تحملها، وأن تكون أسلاكها مزودة بأنظمة حماية لمنع ارتفاع الحرارة.
وأكد سلمان ضرورة استخدام قطع ذات جودة عالية (كوالتي) عند إجراء أي تعديل أو إضافة على السيارة، ونصح السائقين بضرورة وجود مطفأة حريق داخل المركبة تحسبًا لأي طارئ، كما حذر من استخدام شواحن الهاتف غير الأصلية داخل السيارة، لكونها عرضة للاحتراق السريع.
ولفت سلمان إلى أهمية اتخاذ إجراءات وقائية في حال ملاحظة خطر وشيك لنشوب حريق، موضحًا أنه من الضروري في مثل هذه الحالات، الإسراع بفصل البطارية من الطرف الموجب، وذلك للحد من احتمالية حدوث تماس كهربائي قد يؤدي إلى اشتعال السيارة.

أعطال وإهمال
تشير تحقيقات الجهات المختصة في دول الخليج إلى أن حرائق السيارات في فصل الصيف تنتج غالبًا عن مزيج من الأعطال التقنية وسلوك السائقين، إذ يُعد الإهمال في الصيانة واستخدام قطع غيار مقلّدة، والتوصيلات الكهربائية غير الآمنة من أبرز الأسباب، كما تسهم تسريبات الوقود والزيت، وانخفاض مستوى ماء التبريد، في رفع حرارة المحرك واشتعاله.
وتزداد المخاطر مع سلوك خاطئة، كترك ولاعات أو معقمات داخل السيارة، والتدخين قرب محطات الوقود، أو التحميل الزائد، وفي ظل الحرارة العالية، تتحول هذه العوامل إلى شرارة محتملة لحوادث احتراق مفاجئة أثناء القيادة.

نوع السيارة
ثار جدل في الآونة الأخيرة عما إذا كانت حرائق المركبات مرتبطة بعلامات أو أنواع معينة من السيارات، مثل ما يتردد عن السيارات الصينية الاقتصادية مقارنة بالسيارات الفاخرة أو العلامات العالمية المعروفة، غير أن التحقيق في الحوادث والتصريحات الرسمية يشير إلى أن سلوك الاستخدام والصيانة هي العامل الحاسم أكثر من نوع أو منشأ السيارة، فمعظم الحوادث تطال مختلف الفئات، وأكد خبراء الدفاع المدني في الخليج أنه على رغم إمكان وجود عيوب تصنيعية نادرة تتسبب بالحرائق، إلا أن الإهمال البشري يظل في الصدارة.
والدليل العملي على أن العلامات المختلفة جميعها معرّضة للخطر، يتمثل في إعلان وزارة التجارة في المملكة العربية السعودية، استدعاء 1660 سيارة “هيونداي توسان” (طرازات 2014 - 2016) لوجود خلل في وحدة نظام الفرامل المانع للانغلاق قد يسبب تماسًا كهربائيًا واشتعال حريق بالمحرك، كذلك تم استدعاء 2264 سيارة “كيا سبورتاج” للسنوات نفسها لخلل مماثل في وحدة التحكم الهيدروليكي للفرامل يزيد خطر نشوب حريق.
ولم تسلم العلامات الفاخرة، إذ استدعت الوزارة أيضًا عشرات من سيارات “مرسيدس أس كلاس” 2022 - 2023 لخلل برمجي في وحدة المحرك يمكن أن يرفع حرارة المحرك بشكل خطير، هذه الأمثلة تؤكد أن قابلية الاحتراق ليست مرتبطة بعلامة تجارية معينة، بل بأي سيارة تعاني عيبًا تقنيًا أو سوء استخدام.
وحتى السيارات الصينية نالت نصيبها من إجراءات السلامة الوقائية، مثل استدعاء سيارات “Changan Uni-T” الأحدث (طرازات 2023 - 2025) في السعودية لمعالجة خلل في وحدة التحكم بالتبريد قد يؤدي إلى انبعاث دخان وارتفاع حرارتها.
الخطر الصامت
وتشير معطيات الحوادث، إلى أن حالة السيارة وعمرها يؤثران بشكل أكبر على احتمال اندلاع الحرائق مقارنة بنوعها أو علامتها التجارية، فالمركبات القديمة أو التي تفتقر إلى الصيانة تزداد فيها فرص التسريبات والتماسات الكهربائية بسبب تآكل الأسلاك وضعف العزل، وغالبًا ما تطال حرائق الصيف سيارات تجاوزت خمس أو عشر سنوات من دون عناية تُذكر.

البيئة الكاشفة
على رغم التزام شركات السيارات العالمية بمعايير أمان صارمة تشمل أنظمة الوقود والكهرباء واستخدام مواد مقاومة للاشتعال، إلا أن تفاوت معدلات حرائق السيارات بين الخليج ودول مثل الولايات المتحدة وألمانيا يعود إلى فروق في البيئة التشغيلية والمواصفات الفنية، فبينما تُختبر السيارات في أوروبا على درجات حرارة معينة، تواجه المركبات في الخليج حرارة قد تتجاوز 50 درجة مئوية؛ ما يكشف عيوبًا لم تظهر في ظروف أبرد. 
لهذا، تفرض المواصفات الخليجية تعديلات خاصة كأنظمة تبريد معززة، وعزل حراري إضافي، وبرمجة مكيفات مخصصة للحرارة العالية، ومع ذلك، فإن استيراد سيارات أوروبية أو أميركية غير مهيأة للمناخ الخليجي يؤدي إلى تلف مبكر أو أعطال خطرة، منها حرائق في المحرك أو البطارية، كما أن استخدام وقود غير مطابق (مثل تعبئة سيارة أميركية بوقود منخفض الأوكتان) قد يسبب احتراقًا مبكرًا وارتفاع حرارة المحرك.

ارتفاع لافت
تشير الإحصاءات المتوفرة من دول الخليج إلى تزايد مقلق في عدد حرائق المركبات، خصوصًا في أشهر الصيف، إذ باشرت فرق الدفاع المدني في المملكة العربية السعودية إخماد 5900 حادث حريق مركبة في العام 2024، بخسائر مادية تجاوزت 29 مليون ريال سعودي.
وتعاملت قوة الإطفاء في دولة الكويت بالعام 2024 مع 731 حادث حريق مركبة برية في الفترة من يناير حتى منتصف سبتمبر 2024، ولم تتوفر إحصاءات محددة لإجمالي عدد حوادث حرائق المركبات للعام 2024 في دولة الإمارات العربية المتحدة، ولكن تشير التقارير إلى أن حرائق المركبات تأتي في المرتبة الثانية بعد الحرائق المنزلية.
ووفقًا لتقرير إدارة المرور في الإمارات للعام 2024، فإن نسبة مذهلة تبلغ 43 % من حرائق المركبات كانت مرتبطة بشكل مباشر بحرارة الصيف الشديدة، إذ شهد العام 2024 درجات حرارة قياسية، بلغت ذروتها عند 52 درجة مئوية، أدت بشكل مأسوي إلى وقوع 2189 حريق سيارة في إمارتي أبوظبي ودبي وحدهما.
وتعاملت فرق الإطفاء بهيئة الدفاع المدني والإسعاف في سلطنة عمان مع 953 حادث حريق مركبة في العام 2023، مقارنة بـ 917 حادثًا في 2022م، بزيادة قدرها 36 حادثًا، وحتى الآن، لم تُعلن الجهات الرسمية في دولة قطر إحصاء محددا لحوادث حرائق المركبات للعام 2024.

جهود التوعية
ومع تزايد حالات الاحتراق في فصل الصيف، اتجهت دول الخليج إلى تكثيف جهودها التوعوية والتشريعية للتقليل من هذه الظاهرة التي تهدد السلامة العامة؛ لرفع مستوى الوعي بين السائقين وتعزيز الثقافة الوقائية.
من جانبها، أطلقت الإدارة العامة للدفاع المدني في مملكة البحرين حملة توعوية بعنوان “السلامة في المركبات”، تركز على توعية السائقين بمسببات حرائق السيارات وأهمية الالتزام بإرشادات السلامة، لاسيما في أشهر الصيف، والتشديد على أهمية الفحص والصيانة الدورية للتأكد من السلامة، وتوفير مطفأة حريق داخل المركبة كخط دفاع أولي ضد الاشتعال.
وتبنّت هيئة أبوظبي للدفاع المدني بالإمارات العربية المتحدة حملة “وقايتكم غايتنا”، التي تهدف إلى توعية الجمهور بأهمية الالتزام باشتراطات السلامة والوقاية من الحرائق، وتعزيز الإجراءات الاحترازية، كما شددت القوانين في الإمارات على أهمية توفر أدوات الإطفاء في المركبات ومعاقبة من يهمل تركيبها أو صيانتها.
وفي المملكة العربية السعودية، نظمت المديرية العامة للدفاع المدني المؤتمر والمعرض الدولي لعمليات الإطفاء، الذي استعرض أحدث ما توصلت إليه الدراسات والتقنيات العالمية في مكافحة الحرائق، وتعزيز جهوزية فرق الإطفاء للتعامل مع الحرائق، بما في ذلك حوادث المركبات.
كما أطلقت قوة الإطفاء العام بدولة الكويت حملة “وقاية وحماية”؛ للتوعية بإجراءات السلامة في الأماكن التي تزداد فيها أخطار الحريق في الصيف بسبب الأحمال الكهربائية العالية والتوصيلات غير الآمنة.
ونظمت هيئة الدفاع المدني والإسعاف بسلطنة عمان، برامج توعوية في محافظتي ظفار والبريمي، ودرّبت نحو 5000 شخص من أفراد المجتمع على قواعد الأمن والسلامة، والإسعافات الأولية، ضمن خطة لرفع الجهوزية العامة والتعامل المبكر مع الحوادث.
وأطلقت الإدارة العامة للدفاع المدني في دولة قطر حملة موسعة لقائدي المركبات وأصحاب السيارات؛ للتعريف بأسباب نشوب الحرائق وطرق الوقاية منها، إلى جانب توجيه الجمهور إلى الإجراءات السليمة التي ينبغي اتباعها عند وقوع حريق في السيارة.

الحماية البداية
ومع استمرار الصيف في فرض تحدياته على الطرقات الخليجية، تبقى الوقاية هي خط الدفاع الأول، ليس فقط عبر الفحص الفني، بل عبر وعي السائقين بخطورة التعديلات العشوائية، والتأكد من جهوزية السيارة لمناخ يتجاوز في قسوته حدود ما صُممت له، فبين حرارة الجو، وسوء الاستخدام، وخمول التوعية، تشتعل النيران التي يمكن تجنبها لو التقت مسؤولية السائق بصرامة الصيانة.