في خضم التطورات المتسارعة التي يشهدها الإعلام المعاصر، وما يصاحبها من تحديات تتعلق بالمصداقية والأخلاقيات، يبرز مبدأ الأمبودسمان كنموذج فعال لحماية الجمهور وتعزيز المساءلة بعيدًا عن القيود القانونية التي قد لا تكون دائمًا الحل الأمثل، فكما نشأ هذا المفهوم في السويد عام 1809 كوسيلة لتحقيق التوازن بين سلطة الدولة وحقوق الأفراد، يمكن تطبيقه في عالم الإعلام لتحقيق توازن مماثل بين حرية الصحافة وحقوق الجمهور.
إن جوهر فكرة الأمبودسمان يكمن في وجود طرف ثالث مستقل ومحايد، مكلف بالنظر في شكاوى الجمهور والتحقيق فيها، والتوصية بحلول عادلة. وفي سياق الإعلام، يمكن لهذا الدور أن يجسده “مُفوَّض الصحافة” أو هيئة مشابهة، تكون مهمتها الأساسية هي استقبال شكاوى الجمهور المتعلقة بالمحتوى الإعلامي، سواء كان ذلك في الصحافة المطبوعة أو الرقمية أو المرئية أو المسموعة.
الميزة الأساسية لهذا النموذج تكمن في قدرته على معالجة المشاكل الأخلاقية التي قد لا يغطيها القانون بشكل كامل، ففي كثير من الأحيان، قد تتسبب ممارسات صحفية غير مسؤولة في إلحاق ضرر بالسمعة أو الخصوصية أو التسبب في ضائقة عاطفية للجمهور، أو حتى الانحياز والتأطير وتكريس الصور النمطية لفئة، دون أن ترقى هذه الممارسات إلى مستوى المخالفة القانونية الموجبة للعقاب. هنا يأتي دور الأمبودسمان الإعلامي ليحكم بمعايير أخلاقية ومهنية، ويُلزم المؤسسة الإعلامية بتصحيح الخطأ أو تقديم اعتذار أو تعويض مناسب، حتى وإن لم يكن ذلك إلزاميًّا بموجب القانون.
تجربة السويد في هذا المجال، من خلال “مُفوَّض الصحافة” موجود في المؤسسة نفسها يقدم لها النقد البناء أو من خلال “مجلس الصحافة” الذي يضع المعايير الوطنية بمشاركة مجموعة المفوضين في المؤسسات المختلفة، تقدم مثالًا حيًّا على فعالية هذا النموذج. فمن خلال آلية واضحة لاستقبال الشكاوى والتحقيق فيها وإصدار القرارات، يتم تمكين الجمهور من محاسبة وسائل الإعلام على ممارساتها، وتعزيز ثقافة المسؤولية الذاتية داخل المؤسسات الإعلامية. هذا النظام، القائم على التنظيم الذاتي والالتزام الطوعي بالمعايير الأخلاقية، أثبت قدرته على الحفاظ على نزاهة الإعلام وتعزيز ثقة الجمهور به.
إن تبني نماذج مشابهة للأمبودسمان في مختلف أنحاء العالم وخصوصًا العالم العربي يمكن أن يكون له تأثير كبير في معالجة التحديات الأخلاقية التي تواجه الإعلام المعاصر، فبدلًا من اللجوء إلى قوانين قد تكون فضفاضة أو عرضة لإساءة الاستخدام، يوفر الأمبودسمان آلية أكثر مرونة -يخرج من رحم الإعلام نفسه- واستجابة لحماية حقوق الجمهور وضمان مساءلة وسائل الإعلام عن أخطائها.