العدد 6002
الجمعة 21 مارس 2025
حين يصبح الماضي حاضرًا دائمًا: من يملك حق النسيان في عصر الإعلام الرقمي؟
الجمعة 21 مارس 2025

تخيل أنك كتبت ملاحظة في دفتر يومياتك قبل عشر سنوات، فكرة عابرة، انفعال لحظي، شيء لم يكن يعني لك الكثير آنذاك. اليوم، فجأة، يُعاد إحياؤها، مجردة من سياقها، تُقرأ بعيون مختلفة، وتُستخدم للحكم عليك وكأنك لم تتغير، وكأن الزمن لم يُحدث أثره الطبيعي في وعيك وفكرك! من المؤكد أن ذلك سيكون مزعجًا لك، فلطالما كان النسيان جزءًا أصيلًا من التجربة الإنسانية، يمنح الأفراد فرصة للنمو وإعادة تشكيل ذواتهم بعيدًا عن أثقال الماضي. أما اليوم، فقد أصبحت الذاكرة الرقمية غير منظمة، تحفظ كل شيء دون تمييز، وتعيد تشكيل الماضي وفقًا لقواعد الخوارزميات، لا وفقًا لإرادتنا.

لم يكن التوثيق يومًا فعلًا محايدًا. ففي الماضي، كان المؤرخون يقررون ما يستحق الحفظ في السجلات وما يجب إهماله. أما اليوم، فقد أخذت الخوارزميات جزءًا من هذا الدور، لكنها لا تعمل وفق منطق المعرفة أو القيمة، بل وفق معايير الانتشار والتفاعل. ونتيجة لذلك، في منصات التواصل الاجتماعي، يُعزز المحتوى الذي يثير التفاعل العاطفي، بينما تتراجع المعلومات المتوازنة والعميقة إلى الخلف، لأنها ببساطة لا تحقق الأرقام المطلوبة. أما في محركات البحث، فلا تتصدر الحقائق بالضرورة قائمة النتائج، بل يظهر المحتوى الذي حقق أعلى نسبة نقر (CTR - Click-Through Rate) سابقًا، حتى لو لم يعد ذا صلة بالحاضر. وهكذا، لا تُبنى الذاكرة الرقمية على ما هو أكثر أهمية، بل على ما هو أكثر تداولًا..

في عام 2014، أدركت محكمة العدل الأوروبية خطورة هذا المشهد، فأقرت "حق النسيان الرقمي" (The Right to Be Forgotten)، الذي يمنح الأفراد إمكانية طلب إزالة معلومات قديمة لم تعد تعكس واقعهم الحالي. لم يكن هذا القرار مجرد استجابة لحالات فردية، بل كان اعترافًا بأن الإنترنت ليس مجرد مستودع للمعلومات، بل قوة تُعيد تشكيل الهويات، وأداة يمكن أن تُستخدم ضد الأفراد دون مراعاة السياق الزمني. لكن المشكلة لم تُحل بالكامل، فحتى بعد إزالة المحتوى من محركات البحث، يظل موجودًا في خوادم أخرى، أو يعاود الظهور عبر منصات مختلفة. الإنترنت لا ينسى بالكامل، لكنه أيضًا لا يتذكر بدقة، بل يُعيد إنتاج المحتوى وفقًا لمنطق السوق الرقمي، حيث لا تحكمه الحقيقة، بل قوانين الانتشار.

لكن "حق النسيان الرقمي" وحده لا يكفي، فالمشكلة لا تتعلق فقط بحذف المعلومات، بل بكيفية إدارتها منذ البداية. وهنا يأتي دور الحوكمة الرقمية، التي لا تهدف فقط إلى منح الأفراد سلطة على بياناتهم، بل إلى إعادة التوازن في الطريقة التي تُبنى بها الذاكرة الرقمية، بحيث لا تُحكم بالكامل بمعايير السوق والتفاعل اللحظي. فـ"حق النسيان الرقمي" ليس سوى أداة ضمن هذه المنظومة الأوسع، التي يجب أن تضمن أن القرارات بشأن ما يُمحى وما يُحفظ لا تكون عشوائية أو خاضعة لمصالح اقتصادية بحتة. فإذا كانت الخوارزميات هي التي تقرر ما يبقى وما يُنسى، فمن يضمن بقاء الحقائق، بينما تتكرر الضوضاء المعلوماتية بلا توقف؟

إن الشركات الكبرى التي تتحكم في تدفق البيانات مطالبة بأن تكون أكثر شفافية، فلا ينبغي لها تخزين المعلومات لمجرد أنها مربحة، ولا أن تحذفها فقط لأنها لا تحقق نسب مشاهدة عالية. في المقابل، تحتاج المؤسسات التشريعية إلى سنّ قوانين واضحة تحمي الأفراد، دون أن تتحول إلى أداة لحذف التاريخ أو التلاعب بالحقائق. إصلاح هذا الخلل لا يقتصر على وضع سياسات لحذف البيانات، بل يستدعي إعادة النظر في آليات البحث، بحيث لا تُحدد الأولويات بناءً على الشعبية فقط، بل وفقًا للدقة والقيمة الحقيقية للمحتوى.

تسعى بعض التشريعات الأوروبية، مثل قانون الخدمات الرقمية (DSA)، إلى إلزام محركات البحث الكبرى بإعطاء الأولوية للمصادر الموثوقة والحد من انتشار المعلومات المضللة. وفي استجابة لهذه التوجهات، بدأت شركات مثل Google في تعديل خوارزمياتها وفق تحديثات E-E-A-T (التجربة العملية، التخصص، الجدارة، الموثوقية)، لتعزيز المحتوى عالي الجودة وتحسين دقة نتائج البحث، مما يمنح الأفضلية للمحتوى القائم على الخبرة والموثوقية.

لكن تحسين جودة المعلومات لا يقتصر على اختيار المصادر فقط، بل يتطلب وعيًا بالخلفية الزمنية للبيانات، بحيث لا تُعامل المعلومات القديمة وكأنها لا تزال صالحة للحاضر. كذلك، يجب على منصات التواصل الاجتماعي إعادة النظر في معايير ترتيب المحتوى، بحيث لا يكون معيار النجاح الوحيد هو مدى إثارة الجدل، بل مدى إسهامه في إثراء النقاش العام.

على الأفراد أيضًا أن يدركوا أن كل منشور أو تعليق قد يكون له أثر طويل الأمد، مما يستدعي التفكير مليًا قبل مشاركة أي محتوى. فالذاكرة الرقمية لم تعد مجرد أرشيف للماضي، بل أصبحت قوة تصوغ الحاضر وترسم ملامح المستقبل. لم يعد ما يبقى وما يُنسى قرارًا فرديًا، بل أصبح خاضعًا لخوارزميات لا تفهم الزمن، ولا تعترف بأن الإنسان يتغير. وحين تتحول الذاكرة إلى قيد يُفرض علينا، يصبح السؤال الحقيقي: هل ما زلنا نملك حق تشكيل وعينا، أم أننا مجرد امتداد لنظام يعيد إنتاج ذاته في حلقة مفرغة، بلا بداية ولا نهاية؟

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .