في صباحك المعتاد، وأنت تتصفح هاتفك، يظهر أمامك عنوان صادم: "الشوفان… الكارثة الغذائية التي لم يخبرك بها أحد!" تتوقف متسائلًا: كيف يمكن لطعام ظل يُروَّج له كخيار صحي أن يكون خطرًا على صحتك؟ بعد ساعات، تقع عينك على مقال علمي موثوق يؤكد العكس تمامًا: "الشوفان… أحد أفضل الأطعمة لصحة القلب." وفي المساء، يظهر خبير تغذية في مقطع فيديو يحذرك من أن الشوفان يرفع نسبة السكر في الدم كما تفعل الحلويات المصنعة. وهكذا، في يوم واحد، تعرضت لثلاث روايات متناقضة حول مكون غذائي واحد، وكل واحدة منها تبدو موثوقة.
كيف يمكن للطعام أن يكون مفيدًا وضارًا في آن واحد؟ ولماذا أصبح الغذاء، وهو أبسط احتياجات الإنسان، ساحة معركة إعلامية لا تهدأ؟ المشكلة لم تعد في غياب البحث العلمي، بل في الطريقة التي تصل بها المعلومات إلينا. ففي الماضي، كانت الأبحاث الغذائية تخضع لمراجعات دقيقة قبل أن تصل إلى الجمهور. أما اليوم، فلم يعد انتشار المحتوى يعتمد على الدقة العلمية، بل على مدى جاذبيته وقدرته على لفت الانتباه.
الخوارزميات التي تتحكم في ترتيب المحتوى تساهم في تضخيم الادعاءات وجعل بعض الأطعمة تبدو أكثر ضررًا أو فائدة مما هي عليه حقًا. وفقًا لنظرية "الضوضاء الإعلامية" (Media Noise Theory)، يؤدي هذا الكم الهائل من المعلومات المتضاربة إلى إرباك الجمهور، مما يجعل التمييز بين الحقائق العلمية والمعلومات المضللة أكثر صعوبة. إضافة إلى ذلك، فإن تدفق المعلومات المستمر يجعل الأفراد غير قادرين على معالجتها بشكل منطقي، فيلجأون إما إلى تصديق العناوين المثيرة أو إلى التشكيك في كل شيء، و في النهاية، الهدف من هذا التدفق المعلوماتي ليس زيادة توعيتك، بل إبقاؤك متفاعلًا لأطول وقت ممكن، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة.
لم يعد علم التغذية مجرد مجال بحثي، بل تحول إلى صناعة محتوى تتنافس فيها الأخبار الصادمة مع الدراسات العلمية الرصينة. يتفوق العنوان الجذاب على البحث العلمي، ولم تعد الشهرة مرتبطة بالدقة، بل بمدى قدرة المعلومة على إشعال الجدل، فحتى وسائل الإعلام التقليدية باتت تتبنى أساليب الإثارة نفسها، لأن التقارير الهادئة لا تحقق الانتشار، بينما العناوين المثيرة تفعل. فما كان بسيطًا وواضحًا أصبح محاطًا بالتشويش. فمثلا الشوفان، الذي كان رمزًا للصحة، أصبح فجأة موضع جدل، والقهوة، التي وُصفت يومًا بأنها ضارة، أصبحت تُعرف بـ"إكسير الحياة"، ثم عادت إلى دائرة الاتهام بتسببها في فقدان معادن مهمة مثل الكالسيوم والحديد، هذه الفوضى لا تعزز الوعي الصحي، بل تخلق حالة من القلق والارتباك!
أصبح بعض الأشخاص مهووسين بما يسمى "الأكل النظيف" (Orthorexia Nervosa)، لدرجة تجنبهم أطعمة طبيعية خوفًا من منشور مجهول المصدر، آخرون فقدوا الثقة تمامًا في كل هذه المعلومات، مقتنعين بأن "كل شيء متناقض، ولا شيء مؤكد." هذه الفوضى لا تؤثر فقط على اختياراتنا الغذائية، بل على علاقتنا بالطعام ذاته، حيث لم نعد نتعامل معه ببساطة، بل أصبح اختيار ما نأكله مصدر قلق وخوف من ارتكاب خطأ غذائي. حتى عند محاولة البحث عن الحقيقة بأنفسنا، نجد أن محركات البحث تعيد ترتيب النتائج وفقًا لمعايير تجارية، مما يعزز تأثير الضوضاء الإعلامية. ففي دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2024 أظهرت أن العناوين التي تثير المشاعر السلبية، مثل الخوف أو الغضب، تنتشر بنسبة 60% أكثر من المحتوى العلمي الرصين، مما يساهم في تضليل الجمهور بدلًا من تثقيفه.
الحل ليس في تجاهل كل ما يُقال، بل في تعزيز التفكير النقدي واستعادة السيطرة على ما نستهلكه من معلومات. عندما ترى عنوانًا مثل "هذا الطعام يدمر صحتك!"، توقف واسأل نفسك: من هو المصدر؟ هل هناك دراسة علمية تدعمه؟ هل تم تقديم النتائج في سياقها الصحيح؟ ان استعادة وعينا النقدي هي السبيل الوحيد للخروج من دوامة التشويش الإعلامي. علينا أن نكون أكثر وعيًا بما نستهلكه من معلومات، تمامًا كما نهتم بما نأكله. لنتخذ قراراتنا الغذائية بناءً على المعرفة والفهم، لا على الخوف والتلاعب العاطفي. فالطعام ليس مجرد وجبة نأكلها، بل خيار يعكس وعينا وثقتنا في قدرتنا على التمييز بين الحقيقة والتضليل.