العدد 5965
الأربعاء 12 فبراير 2025
الإعلام في عصر الخوارزميات.. هل بقي للعمق مكان؟
الأربعاء 12 فبراير 2025

 في غرفة صغيرة، يجلس إعلامي شاب يُجري التعديلات الأخيرة على تقريره المصوّر حول الشباب الذين يعملون أثناء دراستهم لمواجهة التحديات المعيشية. يضغط على زر “نشر”، ثم ينتظر.. تمر ساعة، ثم يوم كامل، وعدّاد المشاهدات بالكاد يتحرك! على المنصة نفسها، يتصدر فيديو بعنوان 10 “ أشياء غريبة فعلها أحد المشاهير هذا الأسبوع !” قائمة الأكثر مشاهدة، محققًا مليون مشاهدة في ساعات. المشهد ليس مجرد مصادفة، بل هو انعكاس لمنظومة إعلامية تحكمها الخوارزميات، حيث لا يحدد المحتوى نفسه مدى انتشاره، بل مدى قدرته على إثارة التفاعل اللحظي. لكن، هل يعني ذلك أن المحتوى الجاد لم يعد له مكان؟ أم أن المشكلة تكمن في طريقة تقديمه للجمهور؟

كيف تغيّرت قواعد الإعلام؟
في الماضي، كان الإعلام يستند إلى المصداقية، التحليل، والتوثيق، إلا أنه اليوم يخضع لمنطق “اقتصاد الانتباه” (Attention Economy)، حيث لم تعد جودة المحتوى المعيار الأساس لانتشاره، بل قدرته على جذب الجمهور وإبقائه متفاعلًا لأطول مدة ممكنة. ووفقًا لتقرير معهد رويترز لدراسة الصحافة لعام 2024، فإن 51 % من الجمهور يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار، ما يشكّل تحديًا جديدًا أمام المؤسسات الإعلامية التقليدية في الحفاظ على مصداقيتها وجذب انتباه الجمهور في بيئة رقمية تتسم بسرعة التغير والمنافسة الشديدة بين متطلبات المنصات وقيم الإعلام الاحترافية، وفي ظل هذه التحديات، يواجه صنّاع المحتوى ثلاثة مسارات رئيسة:

1- التكيف الكامل مع متطلبات الخوارزميات

  • إنتاج محتوى سريع وخفيف يضمن التفاعل، حتى لو كان ذلك على حساب الدقة والموضوعية.
  •  
  • وفقًا لدراسات إعلامية، فإن 70 % من الفيديوهات الأكثر انتشارًا تعتمد على العناوين المثيرة والعاطفية أكثر من المحتوى التحليلي، ما يجعل المعلومات الجادة أقل انتشارًا.

2- الإصرار على الجودة رغم قلة الانتشار

  • يتمسك بعض صنّاع المحتوى بالمعايير المهنية، حتى لو كان ذلك يعني الوصول إلى جمهور محدود. مثال على ذلك صحيفة الغارديان البريطانية التي استثمرت في الصحافة الاستقصائية رغم تراجع الإعلانات الرقمية.

3- التوازن الذكي بين الجاذبية والقيمة

  • تقديم محتوى جاذب دون المساس بجوهره، عبر أساليب عرض مبتكرة مثل السرد البصري والإنفوغرافيك. قناة Vox  الأميركية تقدم تقارير تحليلية بتصميمات جذابة، ما جعلها تحظى بأكثر من 10 ملايين مشترك على يوتيوب.


نماذج ناجحة.. كيف كسر البعض هيمنة الخوارزميات؟
رغم صعوبة تحقيق التوازن، هناك منصات إعلامية تمكنت من فرض معادلتها الخاصة دون التفريط في الجودة، ومنها:

  • نموذج “Slow Journalism” – الصحافة البطيئة

تعتمد الصحافة البطيئة على تقديم محتوى تحليلي معمّق بدلًا من ملاحقة الأخبار العاجلة. ومن أبرز الأمثلة على هذا النهج مجلة Delayed Gratification البريطانية، والتي تُنشر كل ثلاثة أشهر، متبنية مبدأ “آخر من ينشر الأخبار العاجلة”، وبدلًا من التركيز على السبق الصحافي، تقدم المجلة تحليلات معمّقة وموثوقة للأحداث بعد مرور فترة زمنية كافية لتوفير رؤية أشمل، ما يجعلها نموذجًا بارزًا للإعلام القائم على الجودة بدلاً من السرعة.

 

  • التحليل المتعمق في المنصات الإخبارية الكبرى

بعض المؤسسات الإعلامية الكبرى تقدم محتوى يتجاوز التغطيات السريعة ويركّز على التحليل العميق. مثال على ذلك برنامج “مسائية DW” الذي تبثّه مؤسسة دويتشه فيله (DW)، وهي الشبكة الإعلامية الدولية لألمانيا. يُقدَّم البرنامج باللغة العربية، ويُسلّط الضوء على الأحداث العالمية والقضايا العربية من خلال نقاشات معمّقة بمشاركة خبراء وصنّاع قرار، ما يجعله نموذجًا للإعلام الذي يوازن بين السرعة والعمق. إلى جانب “مسائية DW”، تقدم دويتشه فيله برامج تحليلية مشابهة بلغات أخرى، مثل الإنجليزية والإسبانية، بهدف تقديم محتوى تحليلي متوازن لجمهور عالمي متنوع، مع التركيز على القضايا التي تهم مختلف المجتمعات حول العالم.

 

  • هل نستهلك الإعلام كما يُراد لنا، أم نصنع خياراتنا بأنفسنا؟

 في عالم تحكمه الخوارزميات، يبقى السؤال الأهم: هل نختار المحتوى الذي نشاهده بوعي، أم أننا مجرد متلقين لما تقرره لنا المنصات الرقمية؟ الدراسات تؤكد أن الجمهور لا يزال يبحث عن المحتوى الجاد، لكن التحدي لا يكمن في الرغبة، بل في المنافسة غير العادلة مع المحتوى الترفيهي السريع، والذي يُقدَّم بأسلوب أكثر جاذبية ويحقق انتشارًا أوسع في زمن قياسي. لم يعد الأمر متعلقًا بجودة المعلومة وحدها، بل بطريقة سردها وقدرتها على الصمود في بحر من العناوين الصاخبة والمحتوى السريع الاستهلاك.

  • المعادلة لا تقع على عاتق الإعلاميين وحدهم

فبينما يُطالب الصحافيون بابتكار أساليب عرض أكثر جذبًا دون المساس بجوهر المحتوى الجاد، يتحمل الجمهور أيضًا مسؤولية دعم الصحافة الهادفة. كل مشاركة، كل إعجاب، كل تعليق على محتوى عميق هو بمثابة تصويت لصالح إعلام أكثر وعيًا ومسؤولية. فالمنصات الرقمية لا تفرض المحتوى السطحي وحده، لكنها تعزز ما يتفاعل معه الجمهور، ما يجعل دور المتلقي محوريًا في تشكيل المشهد الإعلامي.


كلمة أخيرة لصنّاع المحتوى
قد تمنحك الخوارزميات الشهرة السريعة، لكنها لا تصنع تأثيرًا حقيقيًّا، أما المحتوى الجيد فقد يشق طريقه بصعوبة، لكنه يبقى. الزمن وحده كفيل بفرز المحتوى العابر من المحتوى الذي يصنع فارقًا. في النهاية لا تقاس قيمة الإعلام بعدد المشاهدات، بل بمدى قدرته على ترك بصمة لا تُمحى في وعي الناس.

أكاديمية متخصصة في الإعلام الرقمي

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية