في أقل من أربع وعشرين ساعة من تنصيبه وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب حزمة من القرارات الخطيرة المثيرة للجدل داخلياً وإقليمياً ودولياً، ومن المفارقات أنه إذ اتخذ قراراً سرعان ما تم تنفيذه بترحيل المهاجرين المقيمين غير النظاميين في الولايات المتحدة من جواتيمالا وكولومبيا والبرازيل في ظروف مهينة لا إنسانية، حيث تم تقييدهم بالسلاسل وتم تسفيرهم في طائرات عسكرية تفتقر إلى التهوية، دون إعطائهم أية مهلة لتسوية أوضاعهم، وجلهم من الأسر الفقيرة الذين أفقرتهم الرأسمالية المتوحشة داخل بلدانهم والمتواطئة مصالحها مع الرأسمالية الأميركية واحتكاراتها، فإنه لا يجد أية غضاضة بأن يطلب من الأردن ومصر بتهجير سكان غزة إليهما، الأمر الذي رفضته الدولتان رفضاً قاطعاً، ومع أن هذا المخطط كان مبيتاً في أذهان حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، لكن ترامب سارع بالتطوع لتنفيذه فور وصوله البيت الأبيض، ولم يكن يهدف من ذلك سوى خطب ود حكومة نتنياهو واللوبي الصهيوني في بلاده باعتبار ذلك الضمانة لتوطيد دعائم حكمه.
وخلال حرب الإبادة الأخيرة التي شنها نتنياهو على سكان غزة تردد كثيرا مصطلح "اليوم التالي" بمعنى ترتيبات ما بعد وقف إطلاق النار حسب مشيئة المعتدي وأهدافه من الحرب التي يرمي فرضها على المعتدىٰ عليهم، وليس وارداً على الإطلاق في مخططات من يفرضون ترتيبات "اليوم التالي" ما سينجم عن ذلك من مشاكل جمة تفضي إلى ترحيل القضية الفلسطينية ومشكلة اللاجئين إلى أفق مجهول فحسب، بل وزرع بذور عدم الاستقرار مجدداً في المنطقة وخلخلة الأمن القومي لكل دولها بلا استثناء.
ومع أن مصطلح "اليوم التالي" شاع بوجه خاص خلال الحرب الأخيرة، إلا أنه كان حاضراً في كل مخططات حروب إسرائيل على الفلسطينيين والعرب بدءاً من حرب نكبة 48، فقد هجّرت قوات الاحتلال ما يقرب من مليون فلسطيني من أراضيهم إلى الضفة ودول الجوار في الأردن ولبنان وسوريا، دون مبالاة بترتيبات "اليوم التالي" المزعزعة لاستقرار المنطقة، أو ضمان حقهم في العودة إلى وطنهم المكفول بقرارات الشرعية الدولية، وكانت النتيجة أن هؤلاء اللاجئين لم يصمتوا على الضيم الذي وجدوا أنفسهم فيه وتبنت قياداتهم وسيلة النضال المسلح طريقاً لتحرير وطنهم من الاستعمار الاستيطاني، ما أفضى موضوعياً إلى خلق إشكاليات أمنية من التصادم مع سيادة ومصالح الدول العربية المستضيفة لأولئك اللاجئين، وهذا ما تتحسب منه الدولتان اللتان يريد ترامب فرض عليهما قبول تهجير الفلسطينيين إلى أراضيهما، هذا بافتراض قبول الفلسطينيين وقياداتهم بذلك التهجير، وقد أبدوا رفضهم القاطع على الفور لفكرته. وكانت مشاهد عودتهم إلى بلداتهم ومدنهم ومخيماتهم المهدمة في شمال القطاع بعشرات الألوف، ومعظمهم مشياً على الأقدام، هي مشاهد مفعمة بالدلالات التاريخية بإصرارهم على البقاء في وطنهم أياً تكن ظروف الحياة الجديدة التي سيعيشونها. وما لا يدركه ترامب أو لا يريد إدراكه، وما لا تدركه حكومة نتنياهو العنصرية أو لا تريد إدراكه، أن القضية الفلسطينية عصية على التصفية ما دامت بلا حل نهائي منصف لشعبها، وما دام شعبها مازال يتمتع بإرادة وطنية فولاذية جبارة في الإصرار على النضال بأفضل الطرق الممكنة المشروعة من أجل تحقيق حريته واستقلاله وتقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
كاتب بحريني