إذا كان اللقاء الأول بين الشاعر الكبير أحمد رامي وأم كلثوم جاء مبكراً في عام 1924 في مسرح حديقة الأزبكية فور عودته من دراسته في باريس،ففد سبقه الملحن الكبير محمد القصبجي بحضوره حفلها الغنائي عام 1923 على مسرح " بابلوت باسك" الذي أحيت عليه حفلاً غنائياً بصفتها "مطربة السيرة النبوية" بعد أن حققت شوطاً لا بأس به من الشهرة في بدايات مسيرتها الفنية في العاصمة، وكما ظهرت في مسرح الأزبكية مرتدية العقال والبالطو الأزرق، فقد ظهرت هنا أيضاً على هذا المسرح بنفس ذلك اللباس، وكان عمره حينئذ يقارب من عمر أحمد رامي 31 عاماً، وقد انتهى الحفل بأن فتن القصبجي بطلاوة صوتها أيما افتتان، وظل يراوده حلم التلحين لها، حتى ابتسم له الحظ عام 1924 عندما عُهد إليه تلحين أغنية " قال حلف ما يكلمنيش" وهي فاتحة الأغنيات التي لحنها القصبجي للست والتي يبلغ مجموعها طوال مسيرتها الفنية 70 أغنية بما يعادل ربع ما غنته كوكب الشرق. ومع أنه قد ظهرت إشكاليات من سوء التفاهم بينه وبينها، إلا أن القصبجي ظل وفياً في التعاون مع أم كلثوم بأي شكل يرضيها حتى رحيله عن دنيانا عام 1966.لقد برز ذلك الإشكال مرتين، المرة الأولى على إثر سماعه نيتها الزواج من الموسيقار محمود الشريف، حيث صدم هذا الخبر عاشقيها أحمد رامي ومحمد القصبجي، أما المرة الثانية فقد قيل لأنه لحّن أغاني للمطربة أسمهان وهي واحدة من أخطر منافساتها في الساحة الغنائية في الثلاثينات والأربعينيات، إلى درجة أن ترددت شائعات بأنها وراء تدبير مقتلها في حادث سقوط سيارتها في الترعة عام 1944، وتردد بأن عقابها له جاء برفضها ألحاناً له على مدى 20 عاماً، فبعد أن يشقى ويسهر الليالي للوصول إلى أقصى ما يمكن من عصارة إبداعه في تلحين كل أغنية من أغانيها الجديدة ترفضها تباعاً وتسند ألحانها إلى غيره من الملحنين، وتردد إعلامياً بإنها تعمدت إذلاله، بأن جعلته مجرد عازف كبقية العازفين في حفلاتها الغنائية حتى رحيله 1966، وأن واحدة من أروع أغانيها " للصبر حدود" بعد أن أطلعها على اللحن رفضته وأسندت تلحينها لمحمد الموجي، حتى دب اليأس في قلب الملحن الكبير وتحطم محبطاً.وكما هو معروف كانت شخصية القصبجي ضعيفة أمام شخصية أم كلثوم إلى درجة أنها لم تتورع في بعض الأحيان أن تسخر من محاولاته التشبب في مظهره أمامها، فذات مرة أثناء التحضير لأغنية "رق الحبيب" وهي واحدة من روائع أغانيها التي لحنها لها، حضر إلى منزلها وكان قد صبغ شعره بالصبغة الأسود القاتم فما كان منها إلا أن بادرته بالقول: " أنت يا أخي مش راح تبطل صبغ شعرك بأه .. كفاية كده رأسك بقت زي الختامية تمام."..فما كان منه وقد شعر بمرارة الإهانة إلا أن أخرج زجاجة الصبغة من جديد وأضاف متعمداً طبقة جديدة من الصبغة أمامها. ولم تقف سخريتها من صباغة شعره عند هذا الحد، فذات مرة كانت في جروبي فطلب شاياً ثقيلاً غامقاً، فاندهشت ثومة من طلبه فنظرت إلى فنجانه طويلاً ثم حولت نظرها إليه قائلةً : إلا قوللي يا قصب - هكذا كانت تناديه- أنت طلبت ( شاي) ولاطلبت صبغة شعر؟
على أن رفض أم كلثوم لألحان القصبجي لم يكن عبثياً أو مجرد عقاب فلا يوجد فنان مغني كبير يفرط في ألحان إبداعية عظيمة لأغانيه، بقدر ما كان ثمة نضوب أو تراجع بهذا القدر أو ذاك في موهبة القصبجي التلحينية، ومن أسف إذ تتوافر لنا تسجيلات لبعض بروفات الألحان لكبار المطربين التي لم يُقيّض لها أن تُغنى كعبد الحليم حافظ، فإنه لا توجد أي بروفات لألحان القصبجي التي رفضتها أم كلثوم، أو على الأقل بروفات وهو يؤديها بصوته ليكون متاحاً للنقاد تقييمها بعدئذ.ومع ذلك ولعشقه الجنوني لها ولصوتها أبى أن يفارق أعمالها الفنية و ارتضى بدور العازف العادي صاغراً. وفي موقف آخر انتابها الشعور بالملل و راودتها نفسها أن تتسلى به بمقلب، فبعثت بطاقات دعوة إلى جمع من معارفهما لحضور مأدبة إفطار، وفوجيء القصبجي بالضيوف، كما تروي الدكتورة نعمات فؤاد في كتابها " أم كلثوم عصر من الفن " وقبل أن يفيق من صدمة ذهوله رن التليفون على الخط لتبادره الست بالقول: باوصيك على الضيوف تفطرهم كويس به. لتؤكد له بذلك بأنها صاحبة المقلب. فما كان منه إلا أن أخذهم إلى مطعم كبير ودفع الحساب لخمسة عشر شخصاً.وإذ لا مجال للمقارنة بين دخل القصبجي ودخل أم كلثوم من عمالهما الفنية، فهل يا تُرى دفعت له بعدئذ ثمن تسليتها بالمقلب الذي أوقعته فيه؟ من المشكوك فيه أنها فعلت ذلك. وبعد انتقل القصبجي إلى رحمة ربه بكته أم كلثوم بمرارة وهي تنظر إلى كرسيه الشاغر في أول حفلة غنائية لها بعد رحيله!