العدد 5950
الثلاثاء 28 يناير 2025
القاهرة عشية استقرار أم كلثوم فيها
الثلاثاء 28 يناير 2025

وصلت "كوكب الشرق"  بصحبة أبيها وشقيقها خالد القاهرة بالضبط على أعتاب مرحلة جديدة من النهوض الوطني الحضاري وبناء الدولة الحديثة في أعقاب ثورة 1919 ضد الأحتلال الإنجليزي، فيما كان الفن الغنائي السائد عند وصولها أقرب إلى الانحلال، ولم يكن أيضاً بعيداً عن التوزيع الطبقي السائد الذي لخصه الأستاذ محمود عوض وهو ممن كتبوا سيرتها كالتالي: 
" إن في القاهرة موسيقى للفقراء.. وموسيقى للأغنياء.. في القاهرة غناء للرجال ..وغناء للنساء " .. مطرب الأغنياء يرتدي بدلة ومطرب الفقراء يرتدي الجلباب .. مطرب الأغنياء يحيي الليلة الرئيسية ليلة الزفاف ومطرب الفقراء يحيي الليالي العادية السابقة على الزفاف..مطرب الأغنياء يخصص له متعهد الحفل ماكينة كهرباء، فالمدعوون كلهم وجهاء.. أما مطرب الفقراء فيستأجر له صاحب الحفلة كلوبات غاز..مطرب الأغنياء محترف متخصص في الغناء .. ومطرب الفقراء غير متفرغ ويعمل بأكثر من حرفة، من بينها الغناء والتلحين . ومن الشائع أن تجد في شوارع القاهرة لافتة كُتب عليها: "بائع يانصيب وسجائر ومغني" وأُخرى كُتب عليها: "ملحن أناشيد ومقريء ومدائح نبوية ومشخص". وفي ظل هذه الأجواء السائدة كان على الآنسة أم كلثوم أن تشق طريقها إلى المجد داخل القاهرة بأن تتحمل المرور بدرجة مطربي الدرجة الثانية، فإذا ما غنى صالح عبد الحي ليلة الفرح الرئيسية فإنها لا تملك أن تغني سوى مدائح نبوية في ليلة عادية من الليالي السابقة مرتدية العقال والبالطو الأزرق، فدونها والدرجة الأولى- درجة مشاهير الطرب- عقبات ومعارك ينبغي أن تخوضها بكل شجاعة وإقدام.وكانت منيرة المهدية تتربع وحدها على عرش الطرب منذ سنوات طويلة، ثم تليها السيدة نعيمة المصرية، فالسيدة توحيدة ، فالسيدة فتحية. وكان الغناء السائد أقرب إلى الخلاعة والذي كانت لا تمانع منيرة المهدية وأضرابها من أن تؤديه، ومن هذه الأغنيات : "أرخى الستارة اللي فريحنا.. أحسن جيرانك تجرحنا".. " أوعى تكلمني بابا جاي ورايا"..  " ما تخافش عليا أنا واحدة سجوريا في العشق ياللي أنت وأخذ البكالوريا". وكان افتتان الجمهور بهذا الغناء الهابط يُعبّر عنه برمي الطرابيش على المسرح الذي تغني عليه المطربة. وإذا كان سيد درويش قد اضطر إلى أن يجاري هذا النوع من الأسفاف الغنائي في سني حياته الأخيرة على نحو ما غنى  "الأستيك فوق صدرك يضوي .. ويا أنا يا مأطأط " أو " بعد العشا .. يحلى الهزار والفرفشة" كما اضطر أن يلحن روايات "كشكش بك" التي كان نجيب الريحاني يقوم  ببطولتها..فهل تستسلم الآنسة ثومة لهذا النمط من الإسفاف وتجاربه كما جاراه  غيرها من كبار مشاهير الطرب والغناء؟
علينا أن نعرف بأن 1926 هو العام الذي قررت فيها أم كلثوم وأسرتها أن يستقروا في القاهرة بصفة نهائية، وهو عام له رمزيته التاريخية في الصراع بين الحداثة والتخلف في مختلف مجالات الفكر والثقافة والفن، ففي هذا العام صدر كتاب عميد الأدب العربي طه حسين " في الشعر الجاهلي"، وقبله بعام فقط سنة 1925 صدر كتاب الشيخ علي عبد الرازق" الإسلام وأُصول الحكم" وكلا الكتابين أثار ضجة عدائية واسعة في الأزهر والأوساط المحافظة ضد مؤلفيهما وصلت إلى تكفيرهما واستدعاءهما للمحاكمة. وفي هذه الفترة نفسها بزغت أعلام النهضة الفكرية والثقافية الذين عاصرتهم الست "بالتزامن"  مع نهوضها الفني، ومن أبرز أعلام هذه الكوكبة: طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وسيد درويش وأحمد شوقي ويوسف وهبي ونجيب الريحاني ولطفي السيد،ناهيك عن رواد الصحافة أمثال أنطون الجميل ومحمد التابعي ومحمود عزمي ومصطفى مشرفة والاقتصادي الوطني طلعت حرب. وكان الشيخان الشقيقان مصطفى وعلي عبد الرازق دور في دعم وتشجيع المطربة الجديدة أم كلثوم، 
فقد فتح مصطفى بيته لها ولأهلها أبواب قصره في عابدين،  ووقف إلى جانبها معنوياً ومادياً، بل لم يتردد عن أن يكتب مقالات غير مذيلة باسمه الصريح في صحيفة "السياسة" للدفاع عنها في بدايات مسيرتها الفنية وما تعرضت له عندئذ من استهداف مغرض.وكما نعلم فقد واجهت "كوكب الشرق" ضغوطاً هائلة من الجمهور بأن تغني أغاني من نمط الموجة الهابطة السائدة، وكان هذا الجمهور لا يخلو من البلطجية المخمورين المستعدين للفتك بها إن لم تستجب لمطلبهم، وفي إحدى حفلاتها كان والدها يحايلهم  ليصرفهم عند هذا المطلب دون جدوى، وكان أحدهم قد تقدم شاهراً مسدسه ما اضطر الوالد للضغط على ابنته لحد القسوة لتستجيب لطلبهم لمسايرة الوضع السائد. والأرجح أن إغنية " أنا الدلاعة والخلاعة مذهبي" وهي من كلمات يونس القاضي وألحان صبري التجريدي، اضطرت أم كلثوم أن تغنيها في ظل مثل تلك الإجواء الابتزازية المقترنة بالمنافسة المحتدمة مع مطربات الصف الأول، وكانت استجابتها مكرهة على مضض كضريبة قاسية كان عليها أن تدفعها كما دفعها الكبار اضطراراً ، لكن ثومة بذلت كل ما في وسعها بعدئذ لشطب هذه الصفحة السوداء  من أوراق سيرتها الفنية، وحرصت على عدم  التطرق إليها البتة في أحاديثها الإعلامية أو السماح لمحاوريها بفتحها.كما تمكنت بجديتها  وبعبقريتها الإبداعية أن تخوض صراعاً نزيهاً ضارياً مع منيرة المهدية لتزيحها من على عرش الغناء وتتربع عليه هي وحدها، بعد أن فشلت كل الدسائس والمكائد الإعلامية التي دبرتها للإساءة إليها، ولم يظل المنافس لها سوى رجل هو موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب واقترن النهوض الغنائي والموسيقي باسمهما حتى الخمسينيات.
وهي لا تنسى أن تعود الفضل فيما وصلت إليه من مجد فني إلى ثلاثة أشخاص : والدتها ووالدها والشيخ أبو العلا الذي جعلته بمنزلة الوالد الثاني لها في رعايتها فنياً وتشجيعها منذ صباها،وترى  بأنه إذ توفى مبكراً فإنه لم يحظ بما يستحقه من الشهرة، هو الذي وقف صلباً إلى جانبها ضد تيار الأغاني الهابطة، وأصر على أن تتمسك بغناء الشعر العربي الرصين، ولهذا كان لافتاً بسبب شدة صدمتها وتأثرها لوفاته أن سارت خلف جنازته مع الرجال، وهو منظر غير مألوف في تشييع جنازة شخصية من الشخصيات. والحال أن مشايخ الدين المصريين لعبوا دوراً مهما في النهضة الموسيقية والغنائية خلال مطالع النصف الأول من القرن العشرين ، وهي مفارقة  مقارنة بمن عُرفوا بمشايخ الصحوة في عصرنا .

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .