في الحادي عشر من فبراير القادم، تحتفل إيران بالذكرى السادسة والأربعين لانتصار ثورة عام 1979، والتي جيرتها قوى الإسلام السياسي الشيعي لصالحها باحتكار السلطة وإقصاء كل القوى السياسية الأخرى التي شاركت فيها، وتعد إيران أول دولة في التاريخ العربي والإسلامي الحديث يحكم فيها الإسلام السياسي، ولما كانت هذه الدولة الإسلامية التي أسسها الإمام الراحل روح الله الموسوي الخميني تقوم على مشروع ديني صريح، كما ورد في دستور الجمهورية الإسلامية، حيث تنص المادة الخامسة بأنه في زمن غيبة الإمام المهدي تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة بيد الفقيه العادل نائب الإمام المهدي، فيما تنص المادة 12 بصورة صريحة على أن مذهب الدولة هو المذهب الجعفري، وأن هذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد، فإن كل ذلك كان كفيلًا باستفزاز قوى الإسلام السياسي السني، والتي عملت كل ما في وسعها لمواجهة خطر تمدد مشروع دولة الإسلام الشيعي بشعاراته الثورية الجاذبة، فكان أن أعلنت شعارات الجهاد في أفغانستان لنصرة المجاهدين الأفغان في مواجهة الوجود العسكري السوفييتي عام 1979، وقد أثمر هذا التحرك قيام أول دولة للإسلام السياسي السني تحكمها طالبان مرتين: المرة الأولى في 1996 والمرة الثانية منذ عام 2021، وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، وقبل طالبان، كان السودان هو السباق إلى إقامة نظام للإسلام السياسي السني يقوده الإخوان المسلمون بعد عشر سنوات فقط من إقامة الخميني جمهوريته الإسلامية في 1979، وذلك إثر الانقلاب الذي نفذه الجنرال عمر البشير عام 1989 على سلطة الصادق المهدي المنتخبة الشرعية، بالتنسيق مع زعيم الإخوان المسلمين حسن الترابي، واستمر حكم البشير زهاء 30 عامًا ونيفًا، كما حكم الإخوان المسلمون في مصر من خلال رئيسهم المنتخب محمد مرسي لمدة عام واحد فقط. (
ثمة ثلاث دول للإسلام السياسي حاليًّا: الأولى في طهران وهي الدولة الأم، والثانية في كابول بقيادة طالبان، والثالثة في دمشق بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) رئيس هيئة تحرير الشام، المنشقة عن تنظيم “القاعدة” بزعامة أسامة بن لادن، وحكمه الآن تحت الامتحان في مدى إيفائه بالوعود التي قطعها أمام المجتمع الدولي بخطابه المعتدل لبناء دولة مدنية دستورية حديثة تستوعب جميع القوى السياسية والطوائف والديانات. وبنظرة تقييمية خاطفة لتجارب الإسلام السياسي في الحكم على مدى نحو نصف قرن، نرى النتائج كارثية: فساد وحكم استبدادي وأزمات اقتصادية ومعيشية خانقة وعزلة عن المجتمع الدولي والعالم، بدءًا بأول دولة للإسلام السياسي ممثلة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مرورًا بحكم البشير العسكري وليس انتهاء بحكم طالبان الحالي. هناك ثلاثة شواهد دالة على العقلية التي أسست نموذج الدولة الأولى الإيرانية الأم شديدة الوضوح في الجهل المطبق بأسس ومفهوم الدولة الحديثة والالتزام بقوانين المجتمع الدولي الحديث:
الأول: مباركة الإمام الخميني الطلبة الإيرانيين باستيلائهم على السفارة الأميركية في خريف 1979 بعد نحو تسعة شهور من قيام الدولة، دون أدنى اعتبارات لحصانة البعثات الدبلوماسية وسفاراتها، وهذا يعد عملًا فوضويًّا يرتكب في ظل سيادة الدولة الإسلامية الجديدة، وهو عمل غير مسبوق في تاريخ الثورات الحديثة.
الثاني: إصدار المرشد المؤسس الخميني فتوى دينية بتكفير الروائي المواطن البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي وإهدار دمه إثر إصداره روايته “آيات شيطانية” عام 1988 دون أي اعتبار لعدم سلطة هذه الدولة على مواطن ينتمي لدولة أخرى بإهدار دمه بناء على رأيه ومعتقده السياسي الديني. فهنا الخميني جعل سلطته الدينية عابرة لحدود الدولة الحديثة وفوق كل سلطات دول العالم والقانون الدولي عمومًا.
الثالث: توجيهه رسالة في يناير 1989 إلى آخر رئيس للاتحاد السوفييتي جورباتشوف يدعوه فيها إلى التخلي عن العقيدة الشيوعية والدخول في الإسلام. هكذا بكل بساطة يخاطب أعلى قائد دولة إسلامية في رسالته - كإمام داعية للإسلام - قائد دولة عظمى، وهي رسالة غير مسبوقة أيضًا في نوعها في تاريخ الدول التي حكمتها سلطات ثورية.
والحال فإنه بناءً على كل تلك التجارب الفاشلة في الحكم لدول الإسلام السياسي خلال نصف قرن وما أسفرت عنه من حصاد كارثي على شعوبها، فإن كل المؤشرات تقطع بأن العد العكسي لانتهائها بدأ ولن يطول تأثيرها في المنطقة أكثر من ربع قرن على الأكثر، بمعنى حتى منتصف قرننا الحالي.
كاتب بحريني