العدد 5946
الجمعة 24 يناير 2025
من طماي الزهايرة إلى القاهرة.. طريق طويل من الأشواك
الجمعة 24 يناير 2025

اسمها : أُم كلثوم ابنة الشيخ إبراهيم البلتاجي، وهي من أكثر الفنانات التي تُعرف بألقاب عديدة خلعها عليها الفنانون الكبار التي أرتبطوا بأعمال معها، والملك فاروق آخر ملوك أسرة محمد علي، فضلاً عن جمهورها، ومن تلك الألقاب : الست، السيدة، كوكب الشرق، صاحبة العصمة( منحها هذا اللقب الملك فاروق).استلهم أبوها اسمها تيمناً باسم إحدى بنات الرسول (ص) حيث كان في فجر يوم ولادة أُمها فاطمة عند زف خبر ولادتها على أيدي الداية يقرأ كتاباً عن أولاد النبي، وكان قد وقع نظره على اسم أم كلثوم، ولم يكن هذا الاسم شائعاً في قريتها "طماي الزهايرة" التابعة لمركز السنبلاوين ولا في القرى المجاورة لقريتهم، ولذا لم تستغ الأم وأهالي أبويها الاسم، فأخذت والدتها تناديها " ثومة"، ولربما انتقل اسم التحبب هذا من البيت إلى عالم محبي فنها. كما كانت تنادى ب " كوكب الشرق" وهو أشهر ألقابها عند تقديم أغانيها في الإذاعة والتليفزيون، وقيل أن هذا اللقب أطلقته عليها سيدة فلسطينية تُدعى أُم فؤاد حينما كانت تُحيي إحدى حفلاتها في فلسطين في حيفا عام 1928، وأياً كان من أطلق هذا اللقب يغلب الظن عندي أنه مستوحى من اسم صحيفة "كوكب الشرق"  المصرية التي كانت تصدر حينذاك.

والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي هو صاحب الفضل الأول في اكتشاف عبقريتها الغنائية ورعايتها منذ كانت صبية لا تتجاوز سن الخامسة. وقد كان فقيراً معدماً لا يكفيه مرتبه من الإمامة ولا من المكافآت التي يتقاضاها نظير إحيائه الموالد في قريته والقرى المجاوره، وفقره الذي تناهى إلى مسامع ابنته وهو يهمس إلى زوجته عند الفجر عن عدم قدرته على دفع مصاريفها في الكتّاب أثّر أشد التأثير فيها.

وذات مرة ضبطها الوالد تقلد صوته، فقرر اصطحابها معاه إلى حفلة شيخ البلد لتغني فيها واعداً إياها بطبق المهلبية التي تحبه. وكان الحفل مزدحما بخمسة عشر شخصاً، وأصرت على أن تؤدي الأغنية وقوفاً على الكنبة وليس جلوساً كما طلب والدها ، وأدت الأغنية بلا أضطراب بكل شجاعة وروعة وسط تصفيق حار من قِبل الحاضرين. وكان نجاحها في أول تجربة غنائية هو بداية طريق طويل من الأشواك والعقبات الجمة التي تخطتها ووالدها بصمود منقطع النظير وإرادة فولاذية مدهشة لا تعرف اليأس حتى وصولهما القاهرة. بعد ذلك الحفل الناجح أخذ والدها يصطحبها معه لأحياء حفلات في مركز السنبلاوين بناء على طلبات من الأهالي الذين حضروا الحفل الأول، وكان وصولهم إلى مكان الحفل يكلفهم ثلاثة كيلو مترات مشياً على الأقدام ما يضطر أفراد التخت إلى حملها على أكتافهم أحياناً حال شعورها بالتعب الشديد.. وتوالت الحفلات بتوالي النجاح، كما توالى زيادة مكافآتها حتى بلغت عشرة قروش فضية حيث وصفت مشاعرها تجاهها بأنها شعرت كما لو أنها امتلكت أكثر من كنز قارون.وانتشر صيت غناء الطفلة المعجزة في كل القرى المجاورة التي بُعدت مسافاتها، وتطلب الأمر ركوب الدرجة الثالثة من القطار وفيه شعرت البنت "ثومة"  بركوبه أيما سعادة و هي تتابع النخيل يجري معهما من النافذة. 

ولم تخلُ بعض الحفلات من الخناقات التي تستغرق وقتاً أطول من الوقت المخصص للغناء. كما تعرضوا للنصب، فالحمير التي يركبونها لإيصالهم من المحطة إلى مكان الحفل في كثير من الأحيان لا يفي أصحابهم المتعهدون بتسخيرها لهم بعد انتهاء الحفل مما حمله الاشتراط على أصحاب أي حفل أن يوفروا الحمير لهم في قريتهم ذهاباً وإياباً.وفي قرى معروفة بتقاليدها الدينية المحافظة قرر والدها إرضاء لضميره إلباسها الغترة والعقال. واشتهر عنها قولها بأنها مسحت قرى القطر المصري قريةً قريةً، وهذا في تقديري من قبيل المبالغة لو قالت ذلك عن قرى الوجه البحري أو الدلتا، فما بالنا وهي لم تتجاوز قرى مركز السنبلاوين التي لا تتجاوز  ال 16 قرية. 

اكتشاف القاهرة: 
وذات مرة اكتشفت أن ثمة عالم اسمه "القاهرة" غير عالم فلكها قرى السنبلاوين ، وذلك على إثر حديث عابر بين الثري عز الدين يكن وناظر عزبته الذي أبلغه بأنه سيقيم حفلاً بمناسبة الإسراء والمعراج في قصره بحلوان فاقترح عليه الناظر بإحضار الصبية ثومة لإحيائه ووافق يكن على ذلك، وسافرت البنت وأبوها إلى القاهرة بصحبة ناظر العزبة وعندما عاينها يكن سخر من شكلها وطلب صرف النظر عنها، وأن يُعهد إلى الشيخ إسماعيل سكر بأحيائه، ثم طلبتها  ست القصر لتغني وسُعدت بادائها لكنها ذُهلت بترحيب الببغاء بها التي ظنتها  غرابا! 

تأثير الشيخ أبو العلا: 
ويُعد الشيخ أبو العلا صاحب الفضل الثاني في اكتشاف وتنمية موهبتها الفنية، وكانت تكن له احتراماً شديداً ، هو الذي كانت تسمعه في صباها ويهزها صوته طرباً، فكيف وهي تسمعه من "الفينو جراف" أحد منجزات الحضارة التكنولوجية الغربية التي صدمتها في القاهرة. وكان أترابها الصبايا يرددن واحدة من أغاني فلكلور الريف المصري الشهيرة " وأنا نازلة أدلع عاملة القُلل" والتي اقتبسها كما نعلم الشاعر المسرحي التقدمي الشهير نجيب سرور في إحدى قصائده" البحر بيضحك ليه" التي غناها الشيخ إمام عيسى، وظن كثرة من محبي غنائه أن تلك الفقرة من لبنات إبداعه ولم يكن الأمر كذلك.

وذات مرة فيما كانت بصحبة أبيها في محطة مركز السنبلاوين أنتهى إلى مسامعها أن الشيخ أبا العلا موجود، وأسرع والدها ليصافح الشيخ الفنان الكبير بكل احترام وتقدير ولحقت أباها وفعلت نفس الشيء، وأمسكت بيده بكل قوة راجيةً إياه أن يحل ضيفاً عليهم في قريتها طماي الزهايرة، ولبى طلبها وفي بيتهما طلبت منه أن يغني لها لكنها طلب منها أن تغني هي الأول له ، ففعلت ذلك احتراماً لشخصيته، وظلا لساعات يتبادلان الغناء وأُعجب بصوتها واقترح على أبيها أن يهاجروا إلى القاهرة للإقامة فيها ويتركوا السنبلاوين لأن مستقبل اببنته مرهون بالإقامة الدائمة هناك، وكان هذا الطلب أشبه بالمستحيل عند الأب،لكن استطاعت بأصرارها المتكرر في نهاية المطاف أن تقنعه.لكن خلال البدايات الأولى من إقامتهما الأولى في القاهرة لم تخلُ من المنغصات التي حملت أبوها على العودة إلى "طماي الزهايرة" ذلك بأن تحويشة  العمر من حفلات القرى التي حملتها معها إلى القاهرة سُرقت ما حملهما على العودة إلى القرية، لكن الحنين إلى  القاهرة شدهما من جديد ليقيما هذه المرة في غرفة بلوكاندة "جوردون هاوس" على شارع الملك فؤاد، ومن على شرفتها شاهدت السينما لأول مرة في حياتها وما تحفله من مشاهد صعقها ذهولاً، كمشاهد تقبيل البطل البطلة ولم تتوقع أنها نفسها ستحل بعدئذ ممثلة ومغنية في هذه السينما، وفي هذه اللوكاندة أيضاً غنى لها الشيخ أبو العلا، وشجعها على الغناء في الحفلات، لكن تأبى نفسها أن تردد في غنائها كلمات لا تفهمها، فمفردة "الجمان" التي وردت في مقطع " جل من طرز الياسمين فوق خدك بالجنار ، واصطفى ذا الجمان الثمين معدناً من لماك العقار" تتعثر في الخروج من حنجرتها وهي تؤديها مع أفراد الفرقة، وصارحت أباها بأنها تعلمت من الشيخ أبي العلا بوجوب أن تفهم كلمات الأغاني التي تغنيها. وعن طريق هذا الشيخ تعرفت ذات يوم على الشاعر أحمد رامي، وفي إحدى حفلاتها بحديقة الأزبكية قدّم نفسه إليها، وأخذت تغني أشعاره بدءاً من " الصب تفضحه عيونه"، وأخذت تهوي كتب الشعر وتقبل على دواوين كبار الشعراء أمثال:  ابن الرومي وابن الفارض والبحتري والمتنبي والشريف الرضي ومهيار الدليمي.

وكتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني. وتعزو صاحب الفضل الأول في تذوقها الأشعار وفهم معانيها  لأحمد رامي الذي يأتيها في كل زيارة لهم بديوان جديد، ومنه أخذت تحس بسليقتها بالبيت الذي يقف على قدميه و البيت المكسور.ومن هنا يمكننا أن نفهم موهبتها في تقرير شطب هذه الكلمة أو تلك من الأبيات التي تغنيها أو استبدالها بغيرها من الكلمات، لكنها لم تفكر في قرض الشعر أو نظم الكلمات قط. 

والحال فلقد عشقت كوكب الشرق القاهرة خلال السنوات الأربع الأولى من إقامتهم فيها،فقد تعرفت  خلالها على كبار الموسيقيين، كالأستاذين حسني أنور وأمين المهدي الذي من خلاله تعرفت في الإسكندرية على  ابنته روحية، وكان عالم القاهرة بالنسبة لها يتكون شارع فؤاد وميدان قصر النيل وميدان عابدين وميدان باب الخلق والزمالك وحديقة الأزبكية، ومع ذلك لم تدخل محلاً تجارياً شهرياً أو مطعماً كبيراً. لكن حدث من جديد ما لا يتوقع في القاهرة على إثر مكيدة مدبرة تمس شرفها روجهاأحد أنصار منافستها منيرة المهدية والتي كانت تُوصف حينها بسلطانة الطرب، فيقرر الأب حزم الحقائب للعودة من جديد لطماي الزهايرة، وتبذل البنت جهوداً جبارة لثنيه عن قراره مستعينة بكل من له تأثير من الأصدقاء على أبيها، فكان أمين المهدي هو الذي نجح في عدوله عن العودة للقرية،وكان هذا العدول هو الأخير لتتحول إقامتهم الأولى في القاهرة المترددة إلى إقامة دائمة حتى مماتها بدءاً من عام 1926، لكن كيف كانت هذه المدينة الصاخبة عشية قرارهم الأخير بالاستقرار الدائم فيها ؟

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية