لم يكن الأتحاد السوفييتي منذ نشأته 1917 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 دولةً جبارة، كما أضحى بعد هذه الحرب التي انتصر فيها مع الحلفاء انتصاراً ساحقاً على ألمانيا النازية، وفي حين كانت سياسته الخارجية قبل الحرب تخضع لمقتضيات أيديولوجية الحزب الحاكم الماركسية الثورية المتشددة، ما أفقده الكثير من مراكز النفوذ والعلاقات الطبيعية مع دول العالم، فإنه بعد الحرب وبعد أن أصبح دولة عظمى تحسب لها الدول الكبرى الغربية ألف حساب، فقد استفاد الحزب من أخطاء سياسته الخارجية المتصلبة قبل الحرب وأخذ يحرص على إقامة شيء من التوازن بين الاعتبارات الأيديولوجية ومصالح الدولة، وعلى وجه الخصوص منذ وفاة ستالين 1953 قائد الحزب والدولة وحلول خروشوف محله، لا بل أن الأتحاد السوفييتي لطالما غلّب مصالح الدولة على الشعارات والمباديء الأيديولوجية حال ما عصي عليه الأمر تحقيق التوازن بينهما، والأمثلة على ذلك عديدة، يكفي أن نشير إلى حرصه على أن لا تمس علاقاته مع الدول العربية التي تربطه بها علاقات حميمة بأي سوء إذا ما اصطدمت أي دولة عربية من حليفاته بالأحزاب الشيوعية واليسارية العاملة على أراضيها. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي انتقد الكثير من تلك الأحزاب وقوفه إلى جانب الأنظمة الديكتاتورية الحليفة له التي كانت تضطهدها وتقمعها.وحتى في ذروة الحرب الباردة بين القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تمكنت قيادتيهما من خلال تغليب الحكمة والعقلانية من تجنيب العالم شرور حرب نووية عالمية خلال أزمة نصب الصواريخ النووية السوفييتية
على النقيض من الأتحاد السوفييتي فإن نظام الدولة الإيرانية الحالية "الجمهورية الإسلامية" الذي أُقيم في أعقاب ثورة 1979 الجماهيرية والتي شاركت فيها مختلف الحركات وألوان الطيف السياسي فإنها أثمرت عن اختطاف الإسلام السياسي لمنجزات الثورة وإقصاء كل القوى التي شاركت فيها، بل هو لم يكتف بمحاربتها وزج الآلاف من رجالاتها في المعتقلات وإعدام العديد منهم، بل قام بتصفية المئات من كبار مشايخ الدين الذين اختلفوا مع قيادتها السياسية أو "مع نظرية ولاية الفقيه" التي نطّر إليها الإمام الخميني، كما تم سن دستور مفصل أو متوافق مع هذه النظرية.وتم تشييد نظام جمهوري إسلاموي متشدد في تطبيقه لشعارات "الثورة" في مجال السياسة الخارجية، دون أدنى مرونة، بما في ذلك التدخل في شؤون دول الأقليم الداخلية. وهكذا فمنذ قرابة خمسين عاماً على قيام نظام " الجمهورية" ظل خطاب السياسة الخارجية يتسم بالتشدد الثوري إزاء دول المنطقة العربية وإزاء الدول الكبرى هو السمة الطاغية في معظم الأحوال، باستثناء سنوات قليلة خلال عهد الرئيسين علي رفسنجاني ومحمد خاتمي حيث جرى خلالها إرخاء هذا التشدد إلى حدما وسرعان ما جرى التضييق على الإصلاحيين والوسطيين وهكذا ظلت السياسة الخارجية على حالها لم تخضع لأي مراجعة باتجاه تخفيف غلواء الخطاب الديني الثوري أو إقامة شيء من التوازن بين مقتضيات مصالح الدولة ومقتضيات الوفاء للأيديولوجية التي يتبناها النظام، هذا على الرغم مما تتكبده الدولة من خسائر كبيرة فادحة جراء العقوبات الغربية والحصار المفروض عليها، وكذلك من جراء الإنفاق الجنوني الهائل على التسلح وتمويل الحركات والأحزاب الموالية له في دول الأقليم.
وغني عن القول بأن تبني سياسة خارجية ثورية متشددة في عالم العلاقات الدولية القائم على أهمية إبداء قدر معقول من المجاملات الدبلوماسية والحنكة لضمان ترسيخ مبدأ التعايش السلمي بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة وتحقيق الاستقرار الدائم، وبخاصة في أوقات النزاعات الأقليمية والدولية من شأنه أن يعرض مصالح الدولة لمزيد من الكوارث الاقتصادية والدولية يدفع أثمانها الشعب في المقام الأول ما يدفعه للثورة على النظام، سواء على المدى القريب أو المدى المتوسط الأجل على الأبعد،