العدد 5936
الثلاثاء 14 يناير 2025
“التقية السياسية” والسيناريوهات المحتملة للمستقبل القريب في سوريا
الثلاثاء 14 يناير 2025

يعتقد عدد من المحللين أن تداعيات سقوط نظام بشار الأسد لن تقتصر على سوريا فقط، بل ستمتد إلى كل منطقة الشرق الأوسط، ولها ارتباطات بمشروع الشرق الأوسط الجديد وإسرائيل الكبرى. من أبرز الأسئلة التي تتطلب الإجابة عنها تتعلق بكيفية تعاطي الفصائل المسلحة المختلفة في الفترة القادمة، وهل هذه الفصائل وقياداتها مازالت تعيش في أفكار “التنظيمات الإرهابية” التي عملت معها ولها لسنوات طويلة مثل داعش والقاعدة وغيرها؟ أم أننا أمام تحول في تفكير وسلوك تلك المجموعات التي تحكم سوريا الآن؟
وفي ظل الخوف على وحدة سوريا، يظهر السؤال الكبير حول مدى إيمان أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني” ورفاقه في “هيئة تحرير الشام” بالدولة الوطنية السورية ومؤسساتها وخاصة الجيش؟ وإلى أي مدى تمتلك هذه الفصائل الإرادة السياسية والتصميم للحفاظ على وحدة الأراضي السورية كما قاتلت لسنوات من أجل الإطاحة بنظام بشار الأسد؟ وما الشروط التي ستضعها الولايات المتحدة مقابل اعترافها بالوضع الجديد؟ عدد من المحللين يزعم أن من يدخلون إلى صفوف الجماعات الآيديولوجية المتطرفة لا يخرجون منها، ويظلون أسرى لأفكارها وتوجهاتها مهما تغيرت ملابسها الخارجية، ويطرح هؤلاء مجموعة من السلوكيات التي تؤكد صعوبة تغيير تفكير وآيديولوجية بعض الجماعات السورية المسلحة، ومنها تخلص زعيم “هيئة تحرير الشام” من كل المنافسين له بالقوة في إدلب خلال الشهور القليلة الماضية، كما أن المقاتلين معه لهم مواقف تسعى لقتل الذين يختلفون معهم في الفكر. 

ويؤكد هذا الفريق أنه من الصعب على شخص مثل الشرع، الذي قاتل بجانب “أبو مصعب الزرقاوي” و “أبوبكر البغدادي” أن يكون شخصًا مختلفًا بعد أن وصل إلى الحكم وباتت لديه سلطات واسعة. ووفق هذه الرؤية، فإن الفصائل المسلحة تستخدم الآن “التقية السياسية” لكسب دعم وتأييد قوى المعارضة الخارجية، وبعد ذلك تعود إلى سلوكياتها المعروفة في القتل والانتقام.
وقد صرح الدكتور هيثم مناع الذي عارض حافظ الأسد وابنه بشار، وقضى أوقاتًا طويلة في السجون، لصحيفة “لوموند” الفرنسية المشهورة، بأن “سوريا أمام مشروع واضح للسلطة والثروة والقرارات المصيرية خلال السنوات القادمة، وكلها بيد شخص واحد، صادر مع حلفائه السلطتين العسكرية والأمنية”. وأضاف: إذا وضعنا الملابس الجديدة وربطة العنق جانبًا، فمن الواضح أننا أمام شكل كلاسيكي للسيطرة العسكرية، كما فعلت جبهة النصرة في تجربة “جيش الفتح” في الشمال السوري، وكررت الأمر “هيئة تحرير الشام” في محافظة إدلب.
الفصائل المسلحة السورية تلقت أيضًا دعمًا خارجيًا، ومن ضمنها تركيا، وحصلت على السلاح والذخيرة والطائرات المُسيَّرة والصواريخ المضادة للدروع لاجتياح دفاعات الجيش السوري. فكيف سيكون موقفها من تركيا الطامحة في بعض أراضيها؟ وأكثر ما يُقلق داعمي الدولة الوطنية في سوريا هو تهنئة تنظيم القاعدة للشرع على الرغم من ادعائه انفصاله وخلافه مع القاعدة، كما أن الجماعات الأصولية وذات الآيديولوجيات المتطرفة وحواضنها الشعبية كانت الأكثر سعادة وترحيبًا بسيطرة الفصائل المسلحة على الحكم في سوريا.
الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية اشتكى من أن اختيار محمد البشير رئيسًا للحكومة المؤقتة وخطوات تشكيل حكومته لم يتم التشاور فيها مع الفصائل المسلحة والائتلاف، وهي “مقدمة سلبية” نظرًا لتاريخ الائتلاف الوطني السوري الذي تشكل مع الأيام الأولى للمظاهرات ضد الأسد في العام 2011، ويُنظر إليه على أنه أكبر تجمع للقوى المدنية والعسكرية السورية التي عارضت الأسد على مدار سنوات، وخاضت معه جولات المفاوضات الكثيرة في جنيف وأستانة وسوتشي. ومن شأن تجاهل الائتلاف الوطني السوري أن يُرسل رسالة مُبكرة برغبة “هيئة تحرير الشام” في الانفراد بالحكم، نظرًا لوجود قوى مدنية وعلمانية كثيرة في الائتلاف الوطني. ولهذا قال نائب رئيس الائتلاف إنه يسعى إلى وضع دستور حقيقي وانتخابات نزيهة، وأن الناخب السوري هو الذي يختار الرئيس، كما انتقد البعض اختيار البشير ليكون رئيس الحكومة المؤقتة في ظل انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين وكونه مقربًا من الشرع، ما يشير إلى أن الاختيار جاء لأسباب شخصية وليس بمعيار التوافق والقبول من الجميع.
ومن جهة أخرى، تتم عمليات مُستمرة لسَلخ أراضٍ سورية، فقد قامت المجموعات الكردية بالاستيلاء على مزيد من الأراضي في شمال وشرق سوريا، خصوصا في محافظات دير الزور والقامشلي وصولًا إلى الحدود السورية العراقية.
كما قامت إسرائيل باستقطاع مساحات جديدة من هضبة الجولان التي احتلتها في 5 يونيو 1967، وبعد سيطرتها على المنطقة العازلة بطول 75 كيلومترًا من جبل الشيخ وحتى الحدود الأردنية، تعمقت أكثر لنحو 20 كيلومترًا جنوب سوريا وباتت قريبة للغاية من العاصمة دمشق. والفصائل المسلحة لم تُعلن موقفها من التوغل الإسرائيلي، وهذا يمكن أن يُشكل عاملًا لعدم الاستقرار في جنوب سوريا خلال المرحلة القادمة.
ما بين المؤشرات والنظرة الإيجابية، والتحديات والمخاوف، يمكن افتراض عدة سيناريوهات مُحتملة لمستقبل الأوضاع في سوريا في المستقبل القريب، منها:
1 - تأسيس دولة ديمقراطية حديثة تقف على مسافة واحدة من الجميع، تتساوى فيها الأغلبية مع الأقليات، وترسم خريطة طريق تعتمد على خطوات واضحة لوضع دستور جديد، وانتخاب الرئيس والبرلمان، وتحديد نمط العلاقة مع الدول العربية والإقليمية والدولية. ولكن سوريا منذ الاستقلال لم تعرف الديمقراطية ولا توجد مؤسسات قوية تتمكن من مُراقبة ذلك. كذلك فإن سوريا عرفت لغة الانقلابات العسكرية المتتالية. وأول انقلاب عسكري حدث في سوريا كان في العام 1949، بدعم الولايات المتحدة لأسباب تتعلق بالاعتراف بإسرائيل. ويعتبر ذلك الانقلاب فاتحة تدخل الجيش في سوريا في الأمور السياسية. وقد وصفه فارس الخوري بكونه “أعظم كارثة حلّت بالبلاد منذ حكم تركيا الفتاة”، ويبدو أن الانقلاب العسكري كان بدعم الولايات المتحدة من أجل الاعتراف بإسرائيل. كما أن أحمد الشرع أعلن أن الانتخابات سوف تُجرى بعد أربع سنوات.
2 - قيام دولة فدرالية تمنح حقوقًا كبيرة للمكونات السورية الرئيسية، وقد يكون هذا السيناريو يتفق مع التفكير الأميركي والأوروبي وقد تدعمه إسرائيل.
3 - إنشاء دولة إسلامية على غرار دولة طالبان، قد يتفق هذا السيناريو مع أفكار ورؤية الجماعات المسلحة التي تقول إنها تريد إنشاء جمهورية إسلامية سورية تُطبق الشريعة الإسلامية حسب تفسيرها. ووفق هذا السيناريو ستكون “هيئة تحرير الشام” ومعها التيار السلفي القلب الصلب لهذا المشروع.
4 - تقسيم سوريا إلى دويلات حسب الخصائص الجغرافية والعرقية والدينية. هذا السيناريو طبقته فرنسا أثناء فترة انتدابها لسوريا كما قامت بفصل لبنان عن سوريا ومنحها الاستقلال، كما قامت فرنسا بسلخ لواء “الإسكندرونة” ومنحها لتركيا، هذا السيناريو أيضًا يتفق مع مشروع “الشرق الأوسط” الجديد و “إعادة هندسة خرائط المشرق العربي”. وفي ظل الأطماع الإقليمية والدولية في سوريا، فإن هذا السيناريو ليس مُستبعدًا.
5 - عدم السماح بإعادة تسليح الجيش السوري بعد أن قامت إسرائيل بتدمير الطائرات والصواريخ والأسلحة البرية والبحرية والجوية يوم 10 ديسمبر الجاري، ومازالت مُستمرة. إن ما قامت به إسرائيل من تدمير مُمنهج لقدرات الجيش السوري البرية والبحرية والجوية، يبعث على القلق الشديد على مستقبل سوريا؛ لأن عدم وجود جيش قوي ومُحترف يمكن أن يزيد من حالة عدم الاستقرار وشيوع النزعات الانفصالية، وهو يُوفّر بيئة للتناحر بين الفصائل المسلحة نفسها في ظل عدم وجود “قوة مسلحة حاكمة” تفصل وتمنع أية خلافات بين المكونات العسكرية المختلفة.
6 - استهداف الأكراد، حيث ترى تركيا في قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والفصائل والتجمعات الكردية السورية خطرًا على الأمن القومي التركي، خصوصا من جانب حزب العمال الكردستاني. وبالتزامن مع تحركات الفصائل المسلحة نحو دمشق كان هناك تحرك مُوازٍ ضد الأكراد في مدينتي منبج وتل رفعت، وهنا تثور المخاوف من أن تتحول الفصائل المسلحة في سوريا إلى “بندقية للإيجار” يتم استخدامها ضد الأكراد أو الجهات الأخرى، ما يُضفي مزيدًا من التعقيد على المرحلة الانتقالية.
7 - بقاء القوات الأجنبية: تُؤكد المواقف المبدئية أن سوريا سوف تظل بها قوات أميركية بعد أن أعلنت واشنطن أنها سوف تُبقي على نحو 950 جنديًا أميركيًا في شرق الفرات، إضافةً إلى إعلان موسكو أنها تتواصل عبر وسطاء مع الفصائل المسلحة من أجل معرفة مستقبل وجود قواتها في طرطوس وحميميم. ومن شأن استمرار بقاء قوات الغريمين الدوليين على الأراضي السورية أن يُشكّل عامل توتر وعدم استقرار يمكن أن تكون له انعكاسات على الوضع الداخلي السوري.
8 - ظهور طاغية جديد من رحم الجيش يستغل حالة الفوضى لترسيخ نفسه مع شلة من المستفيدين. هذا السيناريو سوف يُعرقل بناء دولة مدنية حقيقية تحترم حقوق الإنسان، وتعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وتُعالج الأسباب الجذرية للصراع، ويُعيد تأسيس نظام استبدادي جديد.
باختصار، يخشى عدد كبير من السوريين أن يروا أنفسهم وقد انطبق عليهم مثل عربي قديم “المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار”.

كاتب عماني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية