في أقل من خمسة أيام من الأسبوع الفائت، ألقى الشيخ نعيم قاسم زعيم حزب الله كلمتين مكتوبتين، جريا على عادته منذ استلام القيادة، ولئن أشدنا بميزة الكتابة في مقال سابق، وقلنا لعل ذلك يُجنب القائد الجديد خطايا الارتجال التي كان يزل فيها لسان سلفه نصر الله، ما تسبب لبلده لبنان بمشاكل جمة مع شقيقاته الدول العربية هو في غنى عنها، خصوصا وهو في أمس الحاجة لإقامة علاقات طبيعية مع جميعها في مختلف المجالات، فقد تبين من الكلمتين المكتوبتين اللتين ألقاهما في الأسبوع الماضي أنهما لا تخلوان من محاذير ما كان يجب أن يقع فيها، في وقت يحاول فيه حزبه أن يستعيد عافيته ويستفيد من دروس أشد الهزائم التي لحقت به منذ تأسيسه مطلع الثمانينيات، وعلى رأس تلك المحاذير خضوع كلماته للرقابة أو الوصاية المباشرة المسبقة من قِبل مرشد الجمهورية الإيرانية الإمام الخامنئي، أو من قِبل إحدى الدوائر الرسمية العليا التي تمثله.
ولعل أكثر المراقبين والمحللين فاتهم الانتباه لما في كلمتي قاسم المشار إليهما من دلالات خطيرة، ففي عهدة نصر الله كان يترك له هامش رغم حرصه على تساوق خطاباته الحماسية الملتهبة مع خط القيادة الإيرانية، أما القائد الجديد فقد بات واضحا بعد انتقاله لإيران ليقود حزبه من هناك أنه يفتقد هذه الميزة، وبدا وكأنه يدفع فواتير استضافته فيها، وهذا ما نستشفه من الكلمتين المكتوبتين، فالأولى خصصها لذكرى مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني الذي قتلته القوات الأميركية تفجيرا، ومعه أبو مهدي المهندس وآخرون، فور مغادرتهم مطار بغداد قادمين على ما يبدو من سوريا.
ولقد عُرف عنه بأنه المخطط الأول لعمليات “محور المقاومة” القريب من طهران، سواء الموجهة ضد القوات الأميركية أو ضد حلفائها في المنطقة، وكان سليماني يتنقل عابرا الحدود بين دول ذلك المحور بكل حرية وأريحية، سواء من خلال منافذ سرية غير المنافذ الرسمية (كلبنان) أو من بعض المطارات (كبغداد ودمشق)، دون خضوعه ورفاقه لأية إجراءات جمركية رسمية كالتي يخضع لها السياح الأجانب!
أما الكلمة الثانية فقد خصصها لذكرى الشخصية الإيرانية الشيخ محمد مصباح اليزدي، والاستفاضة في تعديد مناقبه وخصاله بصفته - كما ذهب في كلمته - واحدا من أقرب المقربين لمرشد الجمهورية الراحل الإمام الخميني، ومخلصا أيضا لنظريته بولاية الفقيه. وفي عشية الكلمتين كانت كوادر الحزب وأنصاره في جو الإحباط الشديد من الهزيمة والخسائر الكارثية جراء العدوان الإسرائيلي، وبيئته الاجتماعية وسائر اللبنانيين يحبسون أنفاسهم عما سيقوله من جديد لتضميد جراحهم وعما سيقوله من خطط وأفكار لإعادة البناء حزبيا وعمرانيا، ليتفاجأوا باستغراقه في الحديث عن مناسبة ذكرى الراحلين الإيرانيين المذكورين، ولم يشغل تطرقه للشأن اللبناني إلا حيزا أقل من الوقت الذي خصصه لتلكما المناسبتين. وحتى في الكلمتين كان أكثر ما يشغله كسائر الكلمات التي سبقتهما هو تبرير الهزيمة وتعداد دلالات انتصار الحزب، ومن ذلك أن قوات الاحتلال الإسرائيلي عجزت عن دخول بيروت، غامزا من عجز القوات الوطنية الفلسطينية عن صدها خلال اجتياح 1982، ومحاولا إكساب حزبه بُعدا وطنيا وقوميا لا يتعارض مع هوية الحزب الدينية الطائفية!
ماذا نستخلص مما تقدم؟ ثمة ثلاث دلالات على درجة من الخطورة فيما يتعلق بمستقبل الحزب:
الأولى: وهي تؤكد صحة ما ذهبنا إليه في مقالات سابقة، أن الحزب يعاني من مرارة الهزيمة والتفكك ومن ورطة خسارة قائده الكاريزمي السابق، ومن ثم تضعضع معنوياته، وأنه ما عاد ذلك الحزب المؤثر داخليا وإقليميا ودوليا.
الثانية: أن تلك الخسارة ستتعاظم إذا ما واصلت قيادة الحزب نهج الخضوع المباشر للوصاية الإيرانية، ليصبح بوقا بامتياز لدعايتها الخشبية والترويج لمناسباتها، ومن ثم انفصال القيادة عن الواقع اللبناني أكثر وأكثر، وهذا ما من شأنه أن يعرض الوضع الداخلي للحزب للمزيد من التضعضع بل والانقسام في المستقبل المنظور، لا بل والانقلاب على القيادة الجديدة بعزلها.
الثالثة: إن انتقال القيادة الجديدة إلى إيران يُعد دلالة قاطعة على أن الحزب لا يمتلك تقاليد وخبرة العمل السري كالأحزاب اليسارية والقومية الأقدم، بحيث فقد الثقة في إمكانية توفير مخبأ سري على كل الأراضي اللبنانية، جراء قوة الاستخبارات الإسرائيلية العسكرية التكنولوجية الهائلة في انكشافه واختراقه داخليا بزرع عملاء فيه.
كاتب بحريني