العدد 5931
الخميس 09 يناير 2025
تاريخ طويل من " التكويع" 
الخميس 09 يناير 2025

على إثر سقوط نظام الأسدين البعثي المستبد انتشر في وسائل الإعلام العربية مصطلح" التكويع" وهي مفردة محلية سورية وذائعة الصيت-بدرجات متفاوتة في لبنان والأردن وفلسطين- والمقصود بها الانتقال بسرعة البرق من موقف إلى نقيضه "بزاوية 180 "، وهذا التعبير الأخير بدوره روسي الأصل انتقل إلى اللغة السياسية العالمية، بيد أن المصطلح السوري ذو جذر في الفصحى مشتق من مصدر الفعل "تكويع":  كوّع يكوّع كوعاً ،فهو أكوع. وكوِع الرجل( بكسر الواو): عظُم كوعه أو التوى، والمعنى السياسي هنا التوى في رأيه أو موقفه بسرعة خارقة بلا مقدمات. وهذا ما حصل في الزلزال السوري الكبير والذي صدم سرعة التكويع فيه الرأي العام السوري والعربي بنفس صدمته بسرعة سقوط النظام. وكان الكتّاب والمثقفون السياسيون الموالون للنظام السابق وكذلك الفنانون الكبار، كانوا جميعاً في طلائع المكوعين، وإذ يمكن أن يُشفع بصورة أو أُخرى- وفق ظروف كل مثقف على حدة- تكويعه، فإنه في تقديرنا لا يمكن لوم الفنانين، وتحديدا الملتزمون منهم- بطريقتهم الخاصة الحذرة في الإداء- بالقضايا الوطنية والقومية والإنسانية، سيما وأنهم مستقلون ولا يمكن ملامتهم بنفس لوم المنخرطين في حركات أو أحزاب سياسية. ومن أولئك الفنانين نذكر على سبيل المثال -لا الحصر- الفنان الكوميدي الكبير دريد لحام، وياسر العظمة، وميادة الحناوي وغيرهم. على أن التكويع عربياً ليس وليد الحالة السورية الأخيرة، بل ذا تاريخ عربي طويل ممتد منذ نشوء الدولتين الأموية فالعباسية، فالدول العربية المتعاقبة حتى عصرنا الحديث.ولعل النموذج المصري هو الأبرز في هذا العصر، ويمكننا هنا تمييز أربع محطات تاريخية برزت منذ مطلع خمسينات القرن الآفل: الأولى غداة نجاح من عُرفوا بالضباط الأحرار  برئاسة جمال عبدالناصر في إسقاط النظام الملكي السابق، والثانية إثر نجاح عبد الناصر  في إزاحة زميله محمد نجيب عن رئاسة الجمهورية وحسم الخلافات العاصفة بين الضباط الأحرار لصالحه فيما عُرف بأزمة مارس  1954، والثالثة إثر تبني الرئيس الأسبق أنور السادات سياسة يمينية مختلفة جذرياً عن سلفه عبد الناصر بدأت ملامحها في مايو 1971 بتصفية رجال عبد الناصر في السلطة، حيث أطلق عليها " ثورة التصحيح" ثم جاءت أكثر وضوحاً بتبني ما عُرف " سياسة الانفتاح"  بعد حرب أكتوبر 1973، والرابعة غداة تقديم الرئيس الأسبق حسني مبارك استقالته تحت ضغط الشارع في أحداث يناير 2011،لكن تبقى الحالة السورية هي الأكثر مدعاة للدهشة والذهول في سرعتها القياسية، ولعل الماضي القريب المرعب لذوي السلطة الجديدة لعب دوراً في تحسس المكوعين رقابهم للنفاذ من اقتطافها بتغيير جلودهم.
 

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .