بقدر ما كان استسلام وانهيار نظام الأسد سريعا ومباغتا لجميع المراقبين والمحللين، وشكل انعطافة حادة في انقلاب المشهد السوري بين عشية وضحاها رأسا على عقب، بقدر ما كان ظهور الحاكم الجديد، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقا) بلغة خطاب معتدلة هادئة مفاجأة صاعقة أذهلت الجميع، حيث بدت تلك اللغة تخطب ود المجتمع الدولي وتغازل النظام الإقليمي العربي معا، وهو الذي كان إلى ما قبل يوم واحد فقط من سقوط دمشق الأسدية على يده مطاردا دوليا، كواحد من أخطر قادة جماعات الإسلام السياسي المسلحة المتهمة بالإرهاب دوليا وإقليميا.
وبنفس سرعة سقوط دمشق وفرار الأسد وظهور الجولاني بمظهر “الحمامة الوديعة” المسالمة، تقاطرت سريعا وفود دول كبرى وبعض دول الإقليم لتمد اليد إليه مباركة استلامه الحكم الجديد، ولتستكشف مدى حقيقة تغير شخصيته بالشكل الجديد الذي ظهر عليه كحاكم معتدل مسالم، وعلى رأس تلك الدول الكبرى الولايات المتحدة، التي كانت حتى الأيام الأولى من استلامه السلطة قد رصدت 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تفيد للقبض عليه، وسرعان ما ألغت هذا الإعلان، مع أن الوصول إلى مخبئه السري الذي يشن منه عملياته العسكرية ضد النظام السابق ليس أشد صعوبة وتعقيدا لواشنطن ولا لحليفتها أنقرة، مقارنة بنجاحها في اعتقال رئيس النظام العراقي الراحل صدام حسين بفضل إعلانها مكافأة 25 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات عنه، ما مكن قواتها من الوصول إلى مخبئه السري، وبالتالي فالحليفتان - أنقرة وواشنطن - تتمتعان بوجود مسلح قوي على الأراضي السورية يعززه نظام استخباراتي بالغ التطور، ما يثير علامات استفهام عن سبب عدم وصول واشنطن إلى مخبئه السري حتى عشية سقوط دمشق!
إن الفرحة العارمة التي اجتاحت شطرا من السوريين لحظة الإعلان عن سقوط النظام بعدما عانوا من نظام حكم الحزب الواحد طوال أكثر من 60 عاما، دفعتهم للخروج عفويا إلى الشوارع؛ للتعبير عن مشاعرهم أكثر من كونه استفتاء شعبيا بتأييد الحكام الجدد. وبالتالي فإن السلطة الجديدة مخطئة إن هي فهمت تلك المشاهد بمثابة تفويض شعبي مطلق لها. وإذ تفتقر إلى خبرة وكيفية بناء الدولة وإعادة إعمار ما خربه النظام السابق طوال ستة عقود ونيف، فإن عليها أن تعي أولوية حاجتها الآنية القصوى لتوفير مستلزمات الأمن والاستقرار الداخليين، والتي تعلو على كل أولوياتها الأخرى التي أعلنتها. إن هذه المستلزمات لا تتحقق إذا ما اعتقدت السلطة الجديدة أنها ستكسب ثقة بعض دول الخليج سريعا من خلال اللعب على تناقضاتها مع طهران، في وقت تبذل فيه هذه الدول جهودا لضبط النفس وتصفير المشاكل معها في ظل استمرار تمسكها بخطابها “الثورجي” المتقادم منذ 1979 وتدخلها في الشؤون الداخلية لتلك الدول.
ثمة مخاوف جدية بأن يندفع طرفا الإسلام السياسي الحاكم في دمشق وطهران إلى مواجهات غير مأمون عواقب تداعياتها على استقرار وأمن المنطقة برمتها، لتضيف تعقيدا جديدا على تعقيداتها المريرة المزمنة والمتراكمة، ومن ثم تنسف كل ما تحقق - ولو نسبيا - من جهود لتصغير الأزمات في الإقليم.
كما لن يتحقق الاستقرار الداخلي - كمستلزم للبناء وإعادة التعمير - إذا ما ارتضت أن تكون رهينة لأنقرة، التي مولتها ودعمتها ومكنتها من دخول دمشق حالما أينعت رؤوس حكامها السابقين للاقتطاف، أو إذا ما اعتقدت بأنها ستنعم بالاستقرار الداخلي إذا ما تخلت كليا عن أبسط التزامات الدول العربية جمعاء بالقضية الفلسطينية. ودون الوعي بكل هذه المسائل الشائكة ستدخل سوريا في معمعة جديدة من الفوضى والاضطرابات، ولعل الشهور الثلاثة الأولى من العام الجديد ستكون حبلى وحاسمة لاختبار وسبر أغوار السلطة الجديدة ومعرفة نواياها الحقيقية.