العدد 5905
السبت 14 ديسمبر 2024
banner
التهرب الضريبي وغسل الأموال: خطر خفي يهدّد الاقتصاد العربي
السبت 14 ديسمبر 2024

في عالم يتسارع فيه التطور الاقتصادي والتكنولوجي، لا تزال بعض الجرائم تشكّل تهديدًا كبيرًا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في الوطن العربي

التهرب الضريبي وغسل الأموال هما وجهان لعملة واحدة تؤثران بشكل مباشر على الاقتصاد، حيث تستنزف أموال الدول وتساهم في تفشي الفساد والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن للدول العربية أن تضع حدًّا لهذه الجرائم التي تهدد مستقبل الأجيال القادمة؟

سنحاول في هذا المقال أن نتناول هذه الظاهرة، مع التركيز على محاولات الدول العربية لمكافحتها.

التهرب الضريبي وغسل الأموال

التهرب الضريبي هو محاولة دفع الضرائب المستحقة باستخدام وسائل غير قانونية، مثل التضليل أو تقديم معلومات مزيفة للسلطات الضريبية.

من ناحية أخرى، غسل الأموال هو عملية تحويل الأموال الناتجة عن أنشطة غير قانونية إلى أموال تبدو قانونية، من خلال سلسلة من العمليات المالية المعقدة.

هذه الجرائم لا تقتصر على المسائل الاقتصادية فقط، بل تمس أمن الدول وتؤثر على الاستقرار الاجتماعي. وعلى الرغم من أن هذه الأنشطة قد تبدو محصورة في بعض الأفراد أو المؤسسات، إلا أن تأثيراتها تمتد لتشمل كافة جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

أمثلة مشهورة من الدول العربية والخليجية

تنتشر هذه الجرائم في عدة دول عربية، وتتمثل في أمثلة واقعية تعكس حجم تأثير هذه الأنشطة على اقتصاداتنا

الإمارات العربية المتحدة: في قضية “شركة دبي العالمية” عام 2009 تم اكتشاف عمليات غسل أموال ضخمة عبر حسابات مصرفية خارجية، حيث كانت الأموال المحولة في البداية تبدو قانونية هذا الحدث دفع الإمارات لتشديد قوانين غسل الأموال عبر تطوير “قانون مكافحة غسل الأموال” الذي يفرض رقابة صارمة على المؤسسات المالية.

السعودية: قضية “التبرعات المزيفة” في 2016 والتي استخدمت فيها بعض الجمعيات الخيرية كمغسلة للأموال غير المشروعة، كانت نقطة فارقة. أدى ذلك إلى إقرار الحكومة “قانون مكافحة غسل الأموال” الذي يعزّز من الرقابة على المعاملات المالية المشبوهة.

مصر: في 2018 تورّط رجال أعمال في غسل أموال عبر القطاع العقاري، حيث تم استخدام شركات وهمية لتبييض الأموال، الحكومة المصرية ردّت بتطبيق “قانون مكافحة غسل الأموال”، والذي يتضمّن تشديد الرقابة على المعاملات العقارية والإفصاح عن مصادر الأموال.

لبنان: في 2020 تم كشف قضية “غسيل أموال بنك جمال ترست” الذي كان يعمل على تحويل أموال مشبوهة إلى خارج البلاد عبر شبكة معقدة من الحسابات في رد فعل على ذلك قامت الحكومة بتفعيل “قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب” الذي يضع قيودًا صارمة على البنوك والمؤسسات المالية.

الكويت: شهدت الكويت قضايا بارزة تشمل غسل الأموال عبر صفقات عقارية وهمية مما دفع الحكومة لتحديث “قانون مكافحة غسل الأموال”، وتطبيق نظام رقابي إلكتروني يتيح للبنوك تتبع الأموال المشبوهة بشكل أكثر كفاءة.

قطر: في 2017 تم الكشف عن شبكة واسعة لتهريب الأموال عبر شركات مالية وهمية، مما دفع قطر إلى تعزيز قوانينها الخاصة بغسل الأموال في إطار تعزيز شفافية الأنظمة المالية.

الجزائر: في 2019 كانت الجزائر هدفًا لعدة محاولات غسل أموال من خلال قنوات تجارية غير قانونية، مما دفع الحكومة إلى تحديث “قانون مكافحة غسل الأموال”، وتنظيم التعاون مع الدول الأخرى في هذا المجال.

المغرب: في 2020 بدأت السلطات المغربية في تطبيق “قانون مكافحة غسل الأموال” بصرامة أكبر، مستهدفة القطاع المصرفي والمقاولات التي كانت تستغل الثغرات لتبييض الأموال.

سلطنة عمان: عمان تعمل على تعزيز قوانينها لمكافحة غسل الأموال من خلال إصدار “القانون رقم 30/‏2016 بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب”، وهو قانون يهدف إلى تعزيز الشفافية ومراقبة المعاملات المالية في مختلف القطاعات. الحكومة العمانية أيضًا وضعت إطارًا متكاملًا لضمان التزام المؤسسات المالية بأعلى معايير مكافحة غسل الأموال، حيث يتم تنفيذ تدريبات دورية للعاملين في القطاع المصرفي على آليات كشف الأنشطة المالية المشبوهة. كما تسعى سلطنة عمان إلى تعزيز التعاون الدولي في تبادل المعلومات المالية لمكافحة هذه الجرائم.

محاولات الدول لمكافحة التهرب الضريبي وغسل الأموال

تتعدد محاولات الدول العربية لمكافحة هاتين الجريمتين، وتختلف أساليبها حسب الإمكانيات والموارد المتاحة.

الإصلاحات التشريعية

العديد من الدول العربية قد بدأت في إصلاح قوانينها المتعلقة بالتهرب الضريبي وغسل الأموال

على سبيل المثال، قامت الإمارات والسعودية بتحديث تشريعاتهما لتتوافق مع المعايير الدولية، من خلال فرض غرامات كبيرة على المتهربين من دفع الضرائب ومكافحة غسل الأموال كذلك، بدأت العديد من الدول مثل مصر ولبنان بتطوير أنظمة مالية أكثر شفافية تتيح للسلطات تتبع حركة الأموال بسهولة أكبر.

التعاون الدولي

التعاون بين الدول العربية أصبح جزءًا لا يتجزأ من جهود مكافحة التهرب الضريبي وغسل الأموال تتبادل الدول العربية المعلومات المالية من خلال الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف مع الدول الغربية والمنظمات الدولية مثل مجموعة العمل المالي (FATF) لضمان الكشف عن الأنشطة المالية المشبوهة.

تكنولوجيا المعلومات

تستخدم بعض الدول مثل قطر والكويت تقنيات حديثة مثل الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين لتحليل البيانات المالية ورصد الأنشطة المشبوهة. من خلال هذه الأدوات التقنية، أصبح من الممكن اكتشاف العمليات المالية غير القانونية بشكل أسرع وأكثر دقة.

الرقابة على المؤسسات المالية

تشمل المحاولات القانونية في بعض الدول مثل مصر والجزائر، فرض رقابة صارمة على المؤسسات المالية بما فيها البنوك وشركات التأمين، مع تشديد العقوبات على المتورطين في غسل الأموال كما تقوم هذه الدول بإجراء فحوصات دورية على العمليات المالية لتتبع أي تغييرات غير قانونية.

الآثار الاقتصادية والاجتماعية

التهرب الضريبي وغسل الأموال يتسببان في إضعاف الاقتصاد الوطني من خلال تهريب الأموال إلى خارج النظام المالي، مما يؤدي إلى فقدان الدولة لأموال يمكن استثمارها في مشاريع التنمية أيضًا، يؤدي ذلك إلى زيادة فجوة اللا مساواة الاجتماعية، حيث يستفيد القلة من هذه الأموال على حساب الفقراء.

مقترحات للحد من الظاهرة

من أجل القضاء على هذه الجرائم، يجب أن تعمل الدول العربية على:

تحسين التعاون الدولي في مجال مكافحة غسل الأموال، وتبادل المعلومات بين الهيئات القانونية في الدول العربية والعالم كما يجب تطوير التشريعات لتكون أكثر صرامة وفعالية في مكافحة التهرب الضريبي وغسل الأموال، وتطبيق عقوبات رادعة، أخيرًا ضرورة استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والتحليل البياني لتتبع الأموال غير المشروعة.

رؤية قانونية

إن مكافحة التهرب الضريبي وغسل الأموال ليست مجرد مسألة قانونية بحتة، بل هي قضية وطنية تمس كل فرد في المجتمع. ما نراه اليوم من انتشار لهذه الجرائم لا يتوقف تأثيره عند حدود الاقتصاد فقط، بل يمتد ليطول الأمن الاجتماعي والسياسي، ويؤثر على استقرار الدول وفي عالم مترابط كما هو الحال الآن، فإن تأثير هذه الظواهر يمتد عبر الحدود، مما يفرض على الدول التعاون والتنسيق المستمر لمكافحتها.

لكن القضاء على هذه الجرائم يتطلب أكثر من مجرد تطبيق القوانين الموجودة، بل يحتاج إلى تطوير مستمر للأنظمة القانونية لتواكب التحديات المتزايدة لا يكفي أن تضع الدول قوانين لمحاربة غسل الأموال أو التهرب الضريبي، بل يجب أن تكون هذه القوانين مرنة بما يكفي للاستجابة لأحدث الأساليب المتبعة في ارتكاب هذه الجرائم وهذا هو الأهم كما أن الحزم في تطبيق القوانين يعد خطوة أساسية، حيث لا بد من ضمان عقوبات رادعة تحقق الردع الفعلي.

ومن الأهمية بمكان أن تتم ملاحقة الجرائم المالية بشكل يتسم بالشفافية والمصداقية، بعيدًا عن أي تأثيرات قد تحيد عن الهدف الأسمى وهو تحقيق العدالة وحماية المال العام، ويجب أن تظل الأنظمة القانونية بعيدة عن أي استخدام غير قانوني أو غير أخلاقي لأدوات الملاحقة، وأن تكون أولويتنا الأولى هي ضمان نزاهة الإجراءات القانونية بشكل يحقق الردع الفعلي لهذه الجرائم.

أيضًا، من الضروري أن تتبنى الدول نهجًا شموليًّا لمكافحة هذه الظواهر، يشمل تحديث التشريعات، واستخدام التقنيات الحديثة في رصد الأنشطة المشبوهة، وكذلك تدريب الكوادر القانونية والمالية على أحدث أساليب الاكتشاف والتحقيق التعاون بين الدول العربية أيضًا سيكون له دور محوري في تبادل الخبرات والمعلومات حول الأساليب المستخدمة في غسل الأموال، لاسيما أن هذه الجرائم تتجاوز حدود الدولة الواحدة.

مما لا شك فيه أن نجاح الدول في مواجهة التهرب الضريبي وغسل الأموال يعتمد على مدى التزامها بالتطوير المستمر لمؤسساتها.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية