العدد 5905
السبت 14 ديسمبر 2024
banner
حكاية نظام أسقط نفسه بنفسه
السبت 14 ديسمبر 2024

مع أن مصطلح “نظرية المؤامرة” تعود نشأته إلى عشرينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة، إلا أن رواجه في عالمنا العربي لم يُعرف كما عُرف منذ النكبة الفلسطينية 1948، حيث بُرّر وقوعها بالكامل جراء نجاح مؤامرة أميركية صهيونية مع تغييب تام للعوامل الذاتية الفلسطينية والعربية، وهكذا كان الحال غداة نكسة 1967. إن كل الانقلابات العسكرية في الجمهوريات العربية المسماة بـ “الثورات” إنما جاءت باسم تحرير فلسطين وإنقاذ القضية الفلسطينية من المؤامرات التي تُحاك ضدها، كما كل طغمة عسكرية حاكمة جديدة تقوم تصفياتها للطغمة الحاكمة السابقة وتخونها وفق هذا الشعار ذاته. ولعل القطرين السوري والعراقي اللذين حكمهما جناحان متصارعان في حزب البعث هما أكثر أقطار الجمهوريات العربية القومية شهدا منذ نكبة 1948 سلسلة طويلة من الانقلابات المتعاقبة، الفاشلة منها والناجحة، بل ومن بينها انقلابات داخل الجناح الواحد للحزب الحاكم الواحد.

لقد اُشتهر عن تلك الأنظمة الانقلابية الفريدة من نوعها في العالم حملاتها الإعلامية على الأنظمة الملكية بنعتها بـ “الوراثية” و”الاستبدادية”، لكن رؤساءها انتهوا إلى تبييت النية لتوريث أبنائهم الحكم. ولأسباب مختلفة لم ينجح سوى حافظ الأسد حينما أزِف رحيله. ومع أن الابن باسل رحل في حادث سير غامض لم تكشف أسراره بعد، إلا أن تصميم الوالد على أن يصبغ حزبه الحاكم بجيناته، جعله يستدعي شقيقه الأصغر طبيب العيون بشّار المقيم في لندن ليستلم الحكم من بعد رحيله. لكن هل كان بشّار مؤهّلًا لإدارة حكم دولة مهمة بحجم سوريا؟ لم يكن ذلك مهمًّا في حسابات الوالد “الحصيف” الذي رأى فيه “حكيمًا” بالمعنى المحلي وبالمعنى الأصلي الفصيح للكلمة.

ورغم السقوط السريع المباغت لهذا الأخير فإن المتمسكين بنظرية المؤامرة ظلوا يرددونها بإفراط هذياني منقطع النظير، وإذ لم يفقوا من نشوة إدمانها، فكيف لهم أن يتعظوا من عِبر السقوط والتحلي بشجاعة الاعتراف بالأخطاء القاتلة.

لا جدال في أن “المؤامرات الخارجية” تلعب أدوارًا خطيرة في إطاحة أنظمة مختلفة في العالم، لكن في الغالب الأعم هذه الأدوار ليست محورية كالعوامل الداخلية، فالقوى الخارجية المتآمرة تأتي غالبًا لتضفي على المشهد الختامي لمساتها الأخيرة، وكأن لسانها معبر عنه بمقولة الحجاج بن يوسف الثقفي الشهيرة: “إني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها” وهي لم تينع إلا بفضل حكام تلك الأنظمة الجمهورية، وبهذا المعنى فإن حكامها أطاحوا أنظمتهم بأنفسهم، فكم من فرص إصلاح فوّتوها بمكابراتهم وإصرارهم على سياسة “القبضة الحديدية”. وجراء الفرص المضيّعة في المشهد الختامي من حياة النظام السوري لجأ للاستعانة بموسكو وطهران لحماية نفسه، بل وبحزب الله الذي هب لنجدته بإيعاز من طهران. لقد سفحت دموع على قدراته العسكرية التي دمرتها إسرائيل في حين لم يبق منها إلا أقل القليل؛ جراء توظيفها في خدمة “القبضة الحديدية” بدلًا من الحوار الصبور مع ممثلي شعبه المعتدلين، وهذا ما حدث قبل ذلك بتفويته فرصًا في بداية ما عُرف بـ “ربيع دمشق” مطلع القرن، ثم بداية أحداث 2011. وغداة السقوط لم يجد أصدق أصدقائه المخلصين حرجًا من التندر عليه، بأنه لا يسمع كلامهم، وفيما غزة مبتهجة بسقوطه، انقلب محبوه من عتاة المحللين عليه خلال أربع وعشرين ساعة فقط من هروبه!.

 

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية