يعود بداية سماعي بكاتدرائية نوتردام في الحي اللاتيني بباريس إلى قصة" أحدب نوتردام" للروائي الفرنسي الكبير فيكتور هوجو،إذ كانت هذه القصة قد وردت ملخصةً في كتاب بعنوان "قصص قصيرة" Short Stories صادر عن دار نشر بريطانية، وذلك ضمن المنهاج المقرر علينا في الثانوية العامة (التوجيهية) للعام الدراسي 1971/ 1972، مع أن مناهج المواد الأخرى كانت مصرية، وكان يُدرسنا هذه المادة الأستاذ الفلسطيني يوسف المدهون في مدرسة الحورة الثانوية بالمنامة، وكان لأسلوبه الجذًاب في تلاوة القصة علينا بترجمة فورية سلسة من قِبله بالعربية دور كبير في تحبيب القصة واللغة الإنجليزية معاً إلينا، وزاد من هذا التشويق حبكة الرواية لسردية الصراع على قلب الفتاة الفاتنة الراقصة " إزميرالدا".
بعد ذلك قُيض لي مع ثلاثة من زملائي في العمل أن نزور الحي اللاتيني زيارة قصيرة لمدة ثلاثة أيام في أوائل الثمانينيات، وذلك لدى مرورنا بباريس قادمين من مدينة طنجة المغربية التي قضينا فيها أسبوعين للمشاركة في حلقة نقاشية دراسية تتناول إحدى القضايا الاجتماعية، وقد عُقدت تحت مظلة الجامعة العربية.وكانت تلك الأيام الثلاثة التي أمضيناها في الحي اللاتيني من أجمل زياراتي السياحية،وأتذكر بأن "كاتدرائية نوتردام" التي زرناها كانت على مقربة من الفندق الذي سكنا فيه. ولا أجد أكثر ما يُعبر عن هيامي بهذا الحي الجميل، الذي يفوح منه عبق التاريخ أينما ولجت دروبه، من طه حسين بأروع ما يكون التعبير في الفصل الثالث من سيرته " الأيام".
لكنني "من بعيد"، وهذا عنوان أحد مؤلفاته، عمّق المؤلف من لوعة اشتياقي لزيارة هذا الحي مرة أُخرى لأروي ظمأي منه عوضاً عن تلك الزيارة اليتيمة الخاطفة. ففي هذا الكتاب يروي العميد ضمن ما يروي من انطباعات سجلها عن عشقه لذلك الحي العريق الذي يصفه: " أنه أقدس مكان في العالم الحديث،وأنه الرأس المفكر لهذا العالم، لا استثني منه بلداً ولا مكاناً، وهو الحي اللاتيني" مضيفاً بما يشعر به من التياع في عشقه إياه عشقاً جماً:" أنا أعشق هذا الحي وأهيم به هياماً، وأعلن في ضعف وتواضع أني لا أكاد أحس نفسي فيه،ولا أكاد أشعر بأني أمشي في شوارعه حتى أن قد تجدد شبابي وأستأنفت كل ما فقدت من نشاط".
ومع أن العميد في هذا الكتاب لم يشر في هواجسه التي عبّر عنها إلى "كاتدرائية نوتردام" بالأسم، فإنها أكبر الظن كانت حاضرة في مخيلته وهو يستحضر تلك المشاهد التي أحسها وعاينها بوجدانه.على أن ذلك الصرح الديني الشامخ الذي كاد يتهاوى بفعل حريق خطير اندلع في مساء الخامس عشر من أبريل 2019، لو استحضرت مشاهد يومه الحزين الذي عاشته فرنسا،كما عاشه العالم، ثم استحضرت مشاهد ولادته الفينيقية الجديدة ناهضاً من تحت الرماد في الحفل الرسمي "الجميل" في أوائل ديسمبر 2024، لوجدت أنه لم يعكّر صفو ذلك الحفل البهيج والمنظم تنظيماً في منتهى الروعة سوى بعض من حضروه، ففيما كانت فرنسا تعيش حينئذ في واحدة من أسوأ أزماتها السياسية لسوء إدارة الرئيس ماكرون، فإنه يكن موفقاً البتة بدعوته الرئيس المنتخب الملياردير ترامب الذي لم يُعرف عنه قط أي تبرع للثقافة والفنون والآثار، ولانتابتك مشاعر متضاربة تتوافق تماماً مع ما عبّر عنه طه حسين نفسه في حُب باريس وكراهيتها في آن واحد سبق أن بيناها حرفياً :" ... إن شعوب الأرض جميعاً قد تحب فرنسا وقد تكرهها ، وقد تكون سلماً أو حرباً عليها؛ ولكنها كلها مجمعة على حب باريس، وايثار الإقامة فيها حيناً من الدهر أو شطراً من العمر." .