العدد 5898
السبت 07 ديسمبر 2024
كلمة نعيم قاسم.. قراءة تأملية
السبت 07 ديسمبر 2024

جاءت كلمة الشيخ نعيم قاسم زعيم حزب الله التي ألقاها الجمعة ما قبل الماضية، جاءت - للأسف الشديد - ليست مخيّبة للآمال فحسب، بل مثيرة للإشفاق؛ لما تنطوي عليها من تناقضات والتفاف على الاعتراف بالهزيمة، والأنكى من ذلك وصفه هذه الهزيمة بـ "الانتصار" للمقاومة الأعظم من انتصار 2006، وكلتاهما حربان لم يكن لبنان بحاجة لهما. أما كيف تحقق الانتصار، فلأن المقاومة - على حد تعبيره - منعت العدو من تدمير حزب الله، وبمنطق هذا التعبير فإن الحزب خاض مغامرته الضارية التي خلّفت للبنان أكبر كارثة متعددة الأوجه في تاريخه ليس سوى من أجل أن يمنع العدو من تدميره وإنهاء المقاومة! ومع أن قاسم أقر بأن الاتفاق تم "تحت خط السيادة اللبنانية"، وأن "التنسيق بين المقاومة والجيش اللبناني سيكون تنسيقاً عالي المستوى لتنفيذ التزامات الاتفاق" متعهداً بأن الحزب سيفشل أية مراهنات لإحداث انقسام بينه وبين الجيش، فإنه تجاهل أن هذا مطلب لطالما طالبت به كل الأصوات الوطنية العقلانية منذ ما قبل وقف الحرب الأخيرة، في حين ظل الحزب متفرداً بقرار الحرب والسلم متجاهلاً الدولة وجيشها الوطني.

والحال مماثل فيما يتعلق بوعد قاسم التعاون "مع الدولة وكل المنظمات والدول التي ترغب في مساعدة لبنان"، وكذلك فيما يتعلق بتعهده بأن الحزب "سيكون مع القوى السياسية التي تؤمن بأن الوطن للجميع، وهو سيتعاون ويتحاور مع كل القوى التي تريد بناء لبنان الواحد في إطار اتفاق الطائف". ويتناسى الحزب أن ما يطالب به الآن للحوار مع كل القوى التي تريد "بناء لبنان الواحد" وفق "الطائف" كانت هي التي تطالبه به ردحاً من الزمن.

دون أن تلقى أذناً صاغيةً منه خلال سكرة انتصاراته الوهمية، والحال كذلك فيما يتعلق بتعهد قاسم بـ "الاهتمام بالمؤسسات الدستورية، وعلى رأسها انتخاب رئيس للجمهورية".

مهما يكن فإن الالتفات على الاعتراف بالهزيمة والمتطلبات التي تجاهلها الحزب طويلاً يُعد في حد ذاته خطوة إيجابية، وإن جاءت متأخرة - تحت وقع قسوة ومرارة الهزيمة - خير من ألا تأتي بالمرة، شريطة استيعاب دروسها والعمل بجدية وصدق لتنفيذ تلك المتطلبات بعيداً عن سياسة المحاور والارتهان لطهران. ذلك أن الالتفاف على الاعتراف بالأخطاء عادة حزبية شمولية عربية مديدة، ومن الصعوبة بمكان التوقع بشجاعة الاعتراف بها في ظل الوضع الراهن المزمن والمعقد الذي تمر به بنية مجتمعاتنا العربية وحيواتها السياسية المريضة. وحتى تلك الاعترافات الخجولة الملتبسة التي تم الالتفاف عليها إنما جاءت ليس تحت وقع وحشية ضربات جيش الاحتلال فقط كما قيل، بل وتحت وقع الجدل المحتدم واسع النطاق حول جدوى المغامرة الطائشة التي خاضها الحزب تحت شعار "إسناد غزة" و"وحدة الساحات"، وهو الجدل الذي اخترق بيئة الحزب ومعاقله مما كان له أبلغ الأثر في ولادة هذه "العقلانية" الخجولة الجديدة التي ميزت خطاب قاسم. وإذا كان الكثير من المحللين للشأن اللبناني قد تناولوا تأثير ما تلقاه الحزب من ضربات فادحة غير مسبوقة في الصف القيادي وفي الكوادر على معنويات قطاع كبير من الكوادر، فإنه لا تتوافر حتى الآن إحصائية تقديرية لحجم أعداد مهولة انفضت عن الحزب تحت تأثير تلك الهزائم، وتحت تأثير أيضاً اهتزازها بعقيدة الحزب؛ جراء مفاعيل صدى ذلك الجدل الصحي الذي عاشه لبنان داخليا بطوله وعرضه طوال الحرب، وحيث لم تكن بيئات الحزب بعيدة عنه البتة، وهو أول جدل من نوعه وحجمه يحدث وقت حروب لبنان .

وأخيراً فلعل حرص قاسم على قراءة كلمته مكتوبة بمعرفة ورقابة قيادة الحزب مسبقاً، بدلاً من الكلمات المرتجلة النارية التي تعوّد عليها الأمين العام الراحل والتي لطالما تخللتها سقطات وهفوات على لسانه جرت الدولة إلى مشاكل مع أشقائها هي في غنى عنها، خطوة تساعد على ما أبداه قاسم من استعداد للتعاون مع "الدولة وكل المنظمات والدول التي ترغب في مساعدة لبنان"، ومثل هذا التعاون لن يتحقق ما لم يؤمن الحزب بأهمية مبدأ التعايش السلمي بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة، والذي ظلت قوى التقدم الاجتماعي والسلم في العالم ترفعه في أوج الحرب الباردة؛ درءاً من النزاعات والحروب بين الدول التي تعوق تنميتها واستقرارها أو تجر القوى الكبرى إلى حافة الحرب النووية، وذلك المبدأ لئن كان مهماً بين دول العالم قاطبة، فإنه أكثر أهميةً بين الدول العربية.

كاتب بحريني            

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .