العدد 5895
الأربعاء 04 ديسمبر 2024
banner
المستشرقون ليسوا صنفاً واحداً
الأربعاء 04 ديسمبر 2024

حضرت خلال الشهر الماضي محاضرة قيّمة ألقتها الدكتورة شرف المزعل في جمعية تاريخ وآثار البحرين تحت عنوان " تاريخ الاستشراق ونتائجه على العالم العربي" ، ومع أن المزعل بذلت -للأمانة- جهداً خارقاً -كما يبدو- في جمع مادة محاضرتها من معلومات ومصادر متعددة، ناهيك عن توسعها توسعاً لعله خرج عن ما يندرج تحت عنوان المحاضرة بصفتها تخص الاستشراق فقط، بيد أن المحاضرة يغلب عليها وصم دراسات المستشرقين بمجملها بالمغرضة؛ لإساءتها للتراث العربي،وخصوصاً سيما عند إدراج المستشرقين الأُوروبيين مع الروس والسوفييت على السواء أو دون ذكر ما للأخيرين من أفضال مقارنةً بالأولين. ومن حسن الحظ أن انتابني إحساس قبل حضوري المحاضرة بتوقع حدوث مثل هذا التقييم المتعسف خلال المحاضرة، سواء في سياق عرضها، أو خلال المناقشات التي تُفتح عادةً بعد انتهاء المحاضرات والندوات، ولذا كنت قد جهزت مقدماً ورقة مكتوبة مختصرة تتضمن ما قدمه خمسة مستشرقين روس وسوفييت -على سبيل المثال لا الحصر- من خدمات موضوعية جليلة منصفة لتراثنا ولغتنا العربية وآدابها، وقد سمح لي مشكوراً عريف المحاضرة ورئيس الجمعية الدكتور عيسى أمين بتلاوتها أثناء مداخلتي، وتالياً إعادة عرض لتلك الورقة مع قليل من التوسع:

المستشرق الأول: وهو المستشرق الروسي السوفييتي المخضرم اغناطيوس كراتشكوفسكي( 1883- 1951)، الذي يُوصف في بلاده" أبو الاستشراق" أو "مؤسس مدرسة الاستشراق" في روسيا، وقد ترك لنا في هذا الحقل الذي كرّس حياته العلمية من أجله منذ شبابه اليافع آثاراً في منتهى الأهمية، حيث بلغ مجموع ما تركه لنا 600  عمل بحثي ما يعكس غزارة إنتاجه وعمق تحليله للتراث العربي- الإسلامي.

المستشرق الثاني: الكسندر كولودين، وقد درس بعمق وتمحيص قضايا التراث العربي التي لم تزل تشغل أُدباء عصرنا، ومن ذلك قضية الشعر الجاهلي هل هو منحول أم حقيقي، وهي القضية التي كُفر عميد الأدب العربي طه حسين بسببها؛ لترجيحه الفرضية الأولى بمعنى أنه منحول.وقد ناقش كولودين فرضية طه حسين ومرجليوث، وهذا الأخير قيل أن الأول نقل عنه فرضيته بصحة انتحال الشعر العربي. لكن كولودين أكد أيضاً بأن كراتشكوفسكي يُحسب له بأنه ناقش هذه القضية قبل أن يتناولها الرجلان في بحوثهما . 

المستشرق الثالث: خالدوف، وهو يُعد أفضل من تناول بالتحليل الأثر التراثي الشهير والبالغ الأهمية، المعروف بكتاب " الأغاني" لأبي الفرج الفرج الأصفهاني،  والذي أنجزه في بغداد، وبلغ مجموع أجزائه أربعة وعشرين مجلداً، ولا يشمل أشهر المغنين والملحنين فقط، كما يتبادر للذهن من عنوانه للوهلة الأولى، بل يتضمن أيضاً أسماء العازفين، وأهم الشعراء، وكتّاب كلمات الأغاني.فهو موسوعة تتناول الحياة الثقافية والفنية العربية طوال ما يقرب من خمسة قرون، بدءاً من القرن الخامس حتى أوائل القرن العاشر. 

المستشرق الرابع: نعمة الله إبراهيموف، ومن أهم أعماله" الرواية العربية الشعبية" وكان مهتماً بوجه خاص بسيرة عنترة بن شداد. وحسب هذا المستشرق فقد ظهرت هذه السيرة مترجمةً لأول مرة في روسيا عام 1835 وأنها لاقت إقبالاً منقطع النظير من قِبل القراء الروس، رغم ما شاب الترجمة من أخطاء وابتعاد عن روح السيرة الأصلية وطلاوتها المشوقة. كما حظيت سيرة عنترة باهتمام المترجمين والمستشرقين الأُروبيين، ولا سيما في بريطانيا وفرنسا. ويؤكد إبراهيموف أن مثل هذه السير والقصص في التراث العربي تُعد الخامة أو النواة الأولى لبوادر ظهور الرواية العربية، ومتناولاً بالتحليل أيضاً لأبرز نموذج في هذا الصدد كتاب " ألف ليلة وليلة". وفي  ضوء هذه الاستخلاصات والنتائج التي توصل إليها المستشرق السوفييتي إبراهيموف أقول من جانبي: لطالما ظلم النقّاد العرب والأجانب الرواية العربية حينما يعدونها بأنها صنعة أُوروبية خالصة استعارها روائيونا العرب الأوائل منهم!  دون تنويه على الأقل بجذورها العربية الحقيقية في تراثنا، فالروائيون الغربيون الأوائل لم يفعلوا سوى تطوير تلك الصنعة الأدبية العربية.  

المستشرق الخامس: وهو فاسيلي بارتولد، وهو في الوقت نفسه مؤرخ ينحدر من أُصول ألمانية، ويُعد من المستشرقين المخضرمين، حيث عاش شطراً من حياته في القرن التاسع عشر والشطر الآخر في القرن العشرين. ويُعد بارتولد من أكثر المتخصصين في انجازات الحضارة العربية الإسلامية في الإبداع الأدبي، وبلغ مجموع دراساته في هذا المجال أربعمائة دراسة، وبالإضافة لتخصصه في دراسة العلوم العربية فقد عني هذا المستشرق بنتاجات التراث الأدبي في فارس وتركيا وتتارستان لتركيا. وعُرف عنه تصديه لنسف الادعاء بأن نظرية "المركزية الأوروبية" للحداثة هي ملهمة  المبدعين في كل أنحاء  العالم، ولا سيما، "العالم الثالث" ! 

وهكذا كما نرى مما تقدم أن المستشرقين ليسوا كلهم صنفاً واحداً.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .