انتهينا في حديثنا السابق عن أن المحاولة التقدمية الإنقلابية التي قام طه حسين للخروج عن القواعد المستقرة منذ ألف عام ونيف لرسم الحروف العربية، وذلك من خلال مقال نشرته له صحيفة "الجمهورية" القاهرية عام 1956 إلى الفشل الذريع، وتساءلنا عن أسباب هذا الفشل، ونحاول هنا استقصاء الأسباب. بدايةً لم تكن جهود طه حسين هي المحاولة الأولى من نوعها للقيام بإصلاح ولو جانب واحد من جوانب نظامنا اللغوي المتقادم الذي تخطاه العصر، فقد سبقها محاولات عديدة.
في مصر كلها باءت بالفشل أيضاً،ومن أوائل هذه المحاولات ما قام به منصور فهمي لإحلال الحروف اللاتينية محل العربية،وهي الفكرة التي تبناها أيضاً المفكر سلامة موسى، ناهيك عن الدعوات إلى تبني العامية خلال الربع الأول من القرن الفائت، وخلال الثلث الأخير كان المفكران التونسي العفيف الأحمر والعراقي هادي العلوي ممن تبنوا فكرة طه حسين نفسها، كما أن ثمة دعوات لا تكل من قِبل علماء لغويين في عصرنا ناشدوا المجمع اللغوي بالقاهرة لتيسير النحو، وفي مقدمتهم أُستاذنا اللغوي الصديق إميل يعقوب. على أن مجمل تلك المحاولات فشلت-كما ذكرنا- في إحداث تغيير في المنظومة اللغوية المتقادمة الموروثة منذ ألف عام ونيف.
ويمكن القول ثمة عوامل متشابكة تقف خلف هذه العقبة الكأداء التي تحطمت عليها كل تلك المحاولات:
الأول: انغلاق مجامعنا اللغوية على نفسها، ومنها "مجمع القاهرة"، ذلك بأنها دأبت على الاكتفاء على إصدار قراراتها التصحيحية فيما يتعلق بكل قضايا اللغة غير آبهة بمسببات عدم الأخذ بها في مجتمعاتنا اللغوية والثقافية والإعلامية العربية، وبهذا فإن هذه المجامع غدت أشبه بأجهزة نخبوية لغوية فوقية قابعة في أبراجها العاجية، لا علاقة لها البتة بتلك المجتمعات في أسفل الهرم .
الثاني: غلبة الأعضاء ذوي النهج المحافظ المناوئ للتجديد على ذوي النهج المنادي بالتغيير والتجديد، لا سيما أن ذوي النهج الأول جلهم من مؤسسات دينية كبيرة عُرفت تقليدياً بهذا النهج، على نحو قصة الأزهر الشهيرة في تكفير طه حسين عام 1926 غداة صدور كتابه" في الشعر الجاهلي".
الثالث: وهذا عامل يتعلق بتشريعات المجمع الداخلية، وعلى رأسها لائحته المجمع الداخلية، إذا يكاد المجمع يقتصر في أعماله على تحقيق ثلاثة أهداف حددها المرسوم الملكي الذي صدر عام 1932، وهي الحفاظ على سلامة اللغة لتستوفي مطالب العلوم والفنون الحديثة، و وضع معجم تاريخي للغة العربية، دراسة اللهجات العربية الحديثة. ولا يوجد بين هذه الأهداف هدف ينص بوضوح قاطع على تطوير لغتنا وقواعدها تطويراً يستجيب لمتطلبات العصر، وإن كان هذا الهدف يمكن إدراجه ضمن مهمات الهدف الأول. والأسوأ من ذلك أن حتى تلك تنفيذ تلك الأهداف الثلاثة مازال دون الطموحات المنشودة، ولا سيما فيما يتعلق بالهدف الثاني الخاص بوضع معجم تاريخي ، فبالرغم من مرور أكثر من 92 عاماً على تأسيس المجمع، فإن هذا الهدف ما زال معلقاً و لم يصدر هذا المعجم بعد.كما أن ما تنص عليه اللائحة بأن تكون عضوية عضو المجمع حتى وفاته، لا نظنها منطقيةبل تحول دون ضخ دماء جديدة فاعلة ومجددة في خلايا الجسم العضوي للمجمع.
العامل الرابع: الأوضاع الخطيرة المعوقة المتعددة الأوجه، اقتصاديا وثقافياً واجتماعياً، التي يمر بها عالمنا العربي، وعلى رأسها الأوضاع السياسية التي تؤثر على استقرار وتقدم ونماء الدول العربية،وكذلك انعكاسها أيضاً في بروز الخلافات بين هذه الدول نفسها،وتلك الأوضاع تحول بلا شك دون تواصل المجمعات العربية مع بعضها بعضاً، ودون تطبيق قراراتها ، ناهيك أن دولنا العربية لا تبدي حماساً كافياً لرسالة مجمعاتها البالغة الأهمية فيما يتعلق بتطورها وتطور أُمتها حضارياً.
العامل الخامس: عدم انفتاح مجمعاتنا على المجمعات العالمية أو ما يشابهها من مؤسسات معنية بهذا الأمر،للإستفادة مما يمكن من تجاربها في تطوير لغاتها وأسباب نجاحها في استجابة المجتمعات الثقافية والإعلامية والتعليمية لمشاريع وقرارات تطوير لغاتها، وعلى رأس تلك المجمعات مجمعات الدول المتقدمة.ذلك بأن التواصل مع مؤسسات تلك الدول المتقدمة تتطيّر منها مجمعاتنا وكأنه رجساً من عمل الشيطان لا ينبغي الاقتراب منه،بذريعة أنه يهدد هويتنا اللغوية والثقافية.
والحال مالم تعمل مجمعاتنا وبدعم من دولها على تذليل هذه العقبات سيظل حال مجمعاتنا وحال لغتنا تراوح مكانها إلى أجل غير معلوم إلى أن حتى يشرق فجر جديد يؤذن بولادة نهضة عربية جديدة.