العدد 5891
السبت 30 نوفمبر 2024
فوّاز طرابلسي وشجاعة النقد الذاتي
السبت 30 نوفمبر 2024

 لعل المفكر والقائد اليساري اللبناني فواز طرابلسي واحد من القلائل في التيارات السياسية الثلاثة: القومية واليسارية والإسلامية، الذين قدموا مراجعة نقدية ذاتية في منتهى الشجاعة على الصعيدين الذاتي والحركي، إن لم تكن هي الأشجع، فبالرغم من الأخطاء القاتلة التي لا تحصى والتي ارتكبتها هذه التيارات الثلاثة طوال عقود من الزمن، إلا أنها قلما امتلكت الشجاعة لممارسة نقد ذاتي علني، سواء على الصعيد الحزبي أو على الصعيد الذاتي. ففي كتابه “زمن اليسار الجديد” الصادر عن دار الريس، 2023، يقدم لنا المؤلف كشف حساب بشفافية شافية متناهية عن كل الأخطاء التي ترقى إلى الخطايا التي وقع فيها على المستويين الذاتي والحركي طوال مسيرته الحزبية التي تنقّل خلالها بين عدد من الأحزاب: البعث، فلبنان الاشتراكي، وصولاً إلى “منظمة العمل الشيوعي” التي هي حصيلة اندماج حركتي “لبنان الاشتراكي” و”الاشتراكيين اللبنانيين” غداة نكسة 67. وانتقد منظمته الأخيرة انتقادًا مريرًا حيث تعرضت لانشقاقات عديدة، وكانت في منافسة شديدة مع “الحزب الشيوعي”، كما انتقد زعيمها محسن إبراهيم واصفًا إياه بالدكتاتور، وبأنه كان وبالاً على تحالف الحركة الوطنية بعد مقتل زعيمها كمال جنبلاط 1977. وبعد ابتعاده عن “منظمة العمل الشيوعي” هاجر لاستكمال دراساته العليا في باريس ونال فيها الدكتوراه، وهو لم يكتفِ بكشف فاتورة حسابه للنشاطين الحزبي والذاتي خلال مسيرة امتدت زهاء ستة عقود ونيف، بل قدّم أيضًا فاتورة ذمته المالية الفعلية خلال ذينك النشاطين. ويُعد كتابه الأخير مكملًا بتحليل أعمق لكتابه “صورة الفتى الأحمر” الصادر عن نفس الدار 1997، حيث وصلت تجربته الفكرية إلى ذروة نضجها، مع تراكم الخبرات والتقدم في السن في غضون ربع قرن من عمره خلال الفترة الفاصلة بين كتابيه. 

ولج طرابلسي إلى عالم السياسة من عالم الأدب الذي كان شغوفًا به أيما شغف، لكنه ظل مشدودًا إليه بحيث ترك بصماته في الغالب على أسلوب كتاباته السياسية، وإن ظلت اهتماماته بقضايا الأدب والفن في الصحافة التي ترأسها لم يغادرها، وآخرها مجلته الفكرية الرائدة “بدايات” التي صدرت في 2012، لكنها اضطرت إلى التوقف لضائقة مالية بعد اكتمالها نحو عقد من صدورها. لكن نزعته وروحه الاشتراكيتين بقيتا عصية على مغادرة قعر وجدانه وفكره، رغم كل التحولات التي مر بها خلال مسيرته السياسية. ومن منطلق تلكما النزعة والروح حاكَم “البعث” و”الناصرية”، كما انتقد طرابلسي “الدوغما” في التطبيق الماركسي، رافضًا التأويلات والقراءات الآيديولوجية الضيقة التي تنسب نفسها إلى ماركس، ولم يعفِ منظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي من هذه الصفات، كما تجاهل اليوتيوبيات المتصلة بتنبؤات ماركس حول نهاية الصراع الطبقي وتفكك الدولة عند بلوغ المرحلة الشيوعية، لكن أكّد تمسكه بما سمّاه “الماركسية العملية”. ووصف العودة إلى ماركس بأنها لا تعني الوصاية على فكره أو معارضة غالبية طروحاته، بل تقليبه من جميع الوجوه ضد ذاته وإن وصل الأمر إلى أن “نحلق له لحيته الكثة ونجعله أجرد” تفاديًا من خلق أُصوليات حول فلسفته، مذكرًا بأن كل فلسفة لا تدوم إلى الأبد. ومع أن الكاتب جمال نعيم وصف طرابلسي “مثقفاً عضوياً”، إلا أننا نرى أن هذا الوصف لا ينطبق عليه بالمفهوم المطلق لهذا المصطلح الذي صكه المفكر الإيطالي غرامشي. وإذ اعترف المسيحي العلماني طرابلسي بأن صيغة النظام السياسي اللبناني اختلت لصالح امتيازات سياسية للمسيحيين، فإنه وجّه نقدًا مريرًا لممارسات اليسار خلال الحرب الأهلية، وحدد خلاصة انتقاداته في هذا الصدد بالنقاط التالية المركزة:
الأولى: رفض كل الدعوات لفرض الإصلاح بالقوة أو بالسلاح.
الثانية: إن الحروب الأهلية تفتح الباب للتدخل الخارجي بما يشل قدرة أطرافها على التحكم فيها، لتغدو الأطراف الخارجية الرابح الأكبر، ولا غالب ولا مغلوب في الحروب الأهلية لأطرافها المتقاتلة.
الثالثة: إن الأطراف المتحاربة لا تتورع خلال جنون الحرب عن الاستقواء أيضًا بالولاءات العائلية والطائفية والدينية بديلًا عن التمسك بأطر الحداثة والقيم الإنسانية الفكرية المعاصرة. كما أن الحروب الأهلية تخلق أنماطًا أكثر تطرفًا في التدين من نمط تسييس الأديان.
الرابعة: التوهم بعودة الأوضاع بعد أن تضع الحروب الأهلية أوزارها إلى ما كانت عليه قبل نشوبها، في حين أن فواتيرها يظل الشعب والوطن يسددها طويلًا، وأسوأ نتائجها تفشي العنف بأشكاله المختلفة في أوساط المجتمع. 
 ولعلّ مذكرات أو سيرة فواز طرابلسي التي أصدرها العام الماضي في كتابه “سيرة اليسار الجديد” والتي تتناغم مع ما ذهبنا إليه في مقالات عديدة، جاءت في توقيتها المناسب تمامًا، لا لأنه تخطى العقد الثامن فحسب، بل لأنها جاءت عشية توريط وطنه لبنان في واحدة من أخطر المغامرات العسكرية لحزب الله مع إسرائيل بذريعة “إسناد غزة”، وهو الخطأ القاتل الذي سبق أن وقعت فيه الحركة الوطنية عند تحالفها مع الفصائل العسكرية الفلسطينية خلال الحرب الأهلية (1975 - 1990) ضد إسرائيل، لكنها لم تتباه بأنها حققت انتصارًا ضد إسرائيل، ونعتقد أن هذا الدرس سيستوعبه حزب الله عاجلاً أم آجلاً، مهما كابر بتصوير مغامرته انتصارًا جديدًا يُضاف إلى سجل انتصارات مغامراته السابقة، كما هو درس أيضًا لكل القوى السياسية العربية التي افتتنت بمغامرته الأخيرة، وما زالت تخشى النقد الذاتي ومنكفئة عن ممارسته!.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية