أتابع على نحو شبه منتظم برنامج الإعلامي والفنان المصري الأستاذ محمود سعد " باب الخلق"، لما فيها من متعة وفائدة في تعريف المشاهد بأهم معالم القاهرة الأثرية والشعبية والثقافية، وكم استفدت منها باتخاذها دليلاً سياحياً لتنظيم زيارات سنوية إليها على هامش زياراتي السنوية لحضور معرض القاهرة للكتاب الدولي، ولا سيما المتعلق منها بالقاهرة القديمة والأسواق والأحياء الشعبية.
ولعل نجاح هذا البرنامج وما حظي به من شعبية لدى المشاهدين العرب دفع بعض الدول العربية إلى دعوته وتنظيم برنامج زيارات له شبيهة بزيارات برنامجه" باب الخلق" وهو بالفعل خير من يعرّف شعوب أقطارنا العربية بأهم معالمها السياحية عن قرب ومعاينة عوضاً عن المعرفة السطحية.
ومن هذه الأقطار قدّم لنا حلقتين رائعتين عن العراق وتونس، وقد سرني للغاية أن تمت استضافته في أوائل أكتوبر الماضي من قِبل مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة في البحرين، حيث نُظمت له محاضرة بعنوان "حرية الصحافة" في المركز، كما نُظمت له زيارات لأهم المعالم السياحية لمدينتي المنامة والمحرق، وتم تعريفه بأهم الأحياء والأسواق الشعبية والمقاهي القديمة فيهما، وكذلك بعض صناعاتها التقليدية، ومن ذلك "صناعة الحلوى" حيث تعرّف على واحد من فروع أشهر مصانع إنتاجها في المحرق لصاحبه فؤاد شويطر الذي توارث المهنة عن آبائه وأجداده.
وحسب إفادته فإن حسين شويطر ينتمي للجيل الأول المؤسس، وأنه استورد فكرة إنتاج الحلوى من مدينة النجف العراقية منذ منذ عام 1850.ولربما لقصر فترة زيارته للبحرين لم يتسن له التعرف بشكل أعمق على الجذور التاريخية الأبعد لهذه الصناعة الغذائية العريقة.لذا ولإثراء هذا الموضوع نقدم تالياً لمحة خاطفة عن ذلك.
بداية نشير أن معظم أقطارنا العربية تشتهر بنوع من أنواع حلوياتها، وعلى سبيل المثال لا الحصر من أشهر الحلويات التي يشتهر بها العراق" المن والسلوى"، وفلسطين الكنافة" النابلسية" تشتهر العراق بحلوى "المن والسلوى"،وسوريا البوظة العربية، ولبنان البقلاوة.
أما في مصر فإنها نوع من الحلوى والكنافة، وراجت لدى المصريين عبارة مأثورة " اللي بنى مصر في الأصل حلواني" وتجمع المراجع التراثية المصرية أن المقصود بهذا الشخص هو القائد الفاطمي جوهر الصقلي الذي بنى القاهرة وجامع الأزهر، وكان معروفاً بمهارته في صنع هذا النوع من الحلوى، ولعل الذين تابعوا أوائل التسعينيات المسلسل المصري الشهير" بوابة الحلواني" يتذكرون تتره الجميل : "اللي بنى مصر يا ولاد كان في الأصل حلواني" ومما ساعد في نجاح واشتهار هذا التتر مشاركة نخبة من كبار المبدعين في إنتاجه، فقد كتب كلماته شاعر العامية سيد حجاب، ولحنه بليغ حمدي، وغناه علي الحجار و شيرين وجدي وأخرجه إبراهيم الصحن.
أما فيما يتعلق بجذور " اللي صنع الحلوى البحرينية في الأصل" فهو يعود إلى مدينة جدحفص الريفية القريبة من العاصمة غرباً بمسافة خمس دقائق إذا ما كانت الشوارع المؤدية إليها غير مزدحمة.
ولئن اشتهرت المنامة بصناعة الحلوى وعرضها في أسواقها، فإن الغالبية العظمى من صنّاعها يفتخرون بأن أجدادهم في هذه المهنة ينحدرون من جدحفص، ومن أشهر هؤلاء الحاج عبد الحسين الحلواچي، المعروف بـ" أبو مرتضى" وقد ظهر على إحدى تطبيقات السوشال ميديا مؤكداً هذه الحقيقة.
ولقب " الحلواچي" اشتهر به حرفيو هذه الصنعة الأوائل منذ بداياتها، وكانت جدحفص في عصر من العصور عاصمة البحرين وفق مصادر علمية متعددة ومنها معجم "المنجد في اللغة والإعلام"، وعُرفت بصناعاتها وحرفها التقليدية وغير التقليدية، ومنها مهنة البناء والخبازة والحلاقة والفلاحة وصياغة الذهب وصناعة ماء اللقاح،حتى عُرف كل حي من أحيائها باسم المهنة أو الحرفة التي يمتهنها أهاليه من تلك المهن والحرف، ومن هذه الأحياء فريق " الحلواچية" لأن أهاليه يمتهنون صناعة الحلوى البحرينية.
وإلى جانب الحلوى عُرفت جدحفص بصناعة أنواع أُخرى من الحلوى مثل الخنفروش والرهش و الزلابية والبقلاوة وخلافها.
ويجمع صنّاع هذه المهنة بأن جذورها القريبة لا تقل عن قرنين ونيف حيث يُقدّر ظهورها في أواخر القرن الثامن عشر ميلادي، وكانت تعرض وتُباع في أسواق جدحفص الشعبية وخاصة في مناسبات الأعياد الدينية وقرب حلول شهر رمضان حيث يتضاعف الإقبال عليها من أهالي جدحفص والقرى المجاورة لها.