العدد 5884
السبت 23 نوفمبر 2024
مجزرة الطنطورية ومذابح غزة
السبت 23 نوفمبر 2024

لعلّ أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة عين شمس والناقدة الروائية المصرية الراحلة رضوى عاشور بسردها حكاية مجزرة قرية “الطنطورة” الفلسطينية التي ارتكبتها العصابات اليهودية الصهيونية بحق رجالها إبان نكبة 48، هي أول من انفرد بسرد هذه الحكاية فنيًّا بمخيّلتها الجمالية الإبداعية، وجاء هذا السرد المشوّق المتسلسل وكأنه يروي قصة النكبة وتداعياتها منذ سنة وقوعها إلى “اتفاقية أوسلو” 1993 ومشارف قرننا الحالي، فمجزرة تلك القرية الفلسطينية الجميلة الوادعة، على شاطئ المتوسط جنوبي حيفا، لم تكن سوى حلقة من حلقات المآسي والمذابح المتصلة التي فرّختها النكبة حتى عشية صدور الرواية 2010 عن دار الشروق المصرية. وتروي عاشور على لسان بطلة الرواية “رقية” كيف تناسلت مجزرة الطنطورية إلى سلسلة طويلة من المجازر والتهجير إلى بلدات داخل الوطن ثم داخل لبنان، فكأنما الروائية المصرية عايشت فصول هذا المسلسل بكل دقائق أحداثه وتفاصيله، ولا غرو في ذلك إذا ما عرفنا أنها كانت زوجة الروائي الفلسطيني صاحب رائعة “رأيت رام الله”، وهما والدا الشاعر المبدع تميم البرغوثي، فعلى لسان رقية تحكي أبرز محطات ورموز تلك السلسلة المتناسلة من النكبات والمجازر والتهجير وأحداثها، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: أخبار اغتيالات الموساد أبرز عقول إعلام المقاومة الفلسطينية ومن بينهم الروائي الشهيد غسان كنفاني، مقدمات اندلاع الحرب الأهلية في لبنان 1975 وأبرز محطاتها من مذابح ومآسي الفلسطينيين، كما اللبنانيين، حصار تل الزعتر وجسر الباشا، الاجتياح الإسرائيلي للبنان فبيروت 1982، المذابح الكتائبية الإسرائيلية المروّعة بحق مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين، الجرائم التي ارتكبتها ميلشيا محسوبة على حركة “فتح” وأُخرى على حركة أمل بحق جنوبيين مدنيين في أواسط الثمانينيات. 

تفجير بيت الكتائب ومقتل الرئيس بشير الجميل، حكاية طفل فلسطيني تم إنقاذه من تحت أنقاض تلك الحرب العبثية، مفتاح بيوتهم القديم الصدئ الذي أضحى رمزًا لجريمة اقتلاع شعب من جذور تربة وطنه ويحافظ عليه الفلسطينيون كأيقونة شاهدة على جريمة تشريدهم.

ويمكن القول إن رواية الطنطورية تشبه بوجه من الوجوه رواية “باب الشمس” لإلياس خوري، ليس في أسلوب السرد الفني، لكن في قوة تعبيرها وملامستها آلام الفلسطينيين منذ نكبتهم الكبرى 1948 وإعجاب النخبة الفلسطينية الأدبية والمثقفة بها، وهي إلى ذلك تتشابه مجرياتها أيضًا بوقائع الإبادة الإسرائيلية الجارية على غزة.

كما تكمن أهمية الرواية في أن كاتبتها رضوى عاشور التي كتبتها أو نشرتها في عام 2010 - وفق الطبعة الأولى التي بين أيدينا - بدت وكأنها تستشرف الأبعاد الخطيرة لجريمة الطنطورية، فبعد نحو ثماني سنوات من رحيل الروائية (ت 2014) كُشف النقاب من خلال فيلم وثائقي عن مذبحة هذه القرية، والأهم أنه من إخراج المخرج الإسرائيلي آلون شوارز، وذلك من خلال تغطية إعلامية دقيقة لشهادات القتلة، رغم أن المخرج لا يتعاطف مع الفلسطينيين، بل يبرر فعل القتلة. وقد اعتمد في إخراجه على بحث استقصائي أجراه طالب الدراسات العليا الإسرائيلي تيدي كاتز إلى أن عصابات الاحتلال ارتكبت مجزرة بحق 200 من أهالي القرية، وتوصل بموجب 140 ساعة مسجلة لمقابلات حية مع 137 فردًا من الإسرائيليين والفلسطينيين إلى أن تلك العصابات المسلحة اليهودية – كالهاجاناه - تخلصت من جثث شهداء بدفنها في قبور جماعية! وقد عُرض فيلم في صالات سينما عالمية كثيرة، منها صالة داخل رام الله وأُخرى في أراضي 1948، والمخزي المثير للغضب الشديد والاشمئزاز ليس عند العرب والمسلمين فحسب، بل لدى أي إنسان ذي ضمير حي وحس سوي أن المجرمين القتلة المعمرين يروون اعترافاتهم بكل أريحية وسرور، بل وتغلب على معظمهم القهقهات، دون أن يرف لهم جفن أو تهتز لهم شعرة.. فماذا يا تُرى نتوقع من أولاد وأحفاد هذه العصابات المسلحة التي تحولت إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي في الدولة العبرية الجديدة؟ غير أن يرتكبوا حرب الإبادة الجارية في غزة، وماذا نتوقع من المجتمع الدولي والعالم بأسره الذي التزم الصمت عمليًّا، اللهم إلا الإدانات اللفظية من قِبل بعضه. وأخيرًا لأن جاز لنا أن نجتهد في “النقد الأدبي” لقلنا إن رواية عاشور صوّرت المنكوبين الفلسطينيين كقديسين ثوريين دون أن تذكر شيئًا لأي جانب سلبي كبشر بهذا القدر أو ذاك بما يُخالف فن حبكة الروايات الواقعية.

 

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية