خلال الأسبوع الماضي نشرت صحف مصرية وعربية تقريراً اخبارياً مطولاً مفاده أن شركة سوذبيز العريقة للمزادات عن عرضها في مزادها المقبل ساعة للرئيس المصري والزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر، كان قد أهداها إياها خلفه الراحل أنور السادات في 1963،غداة التأميمات الاشتراكية الكبرى وإقرار الميثاق الوطني الذي ينص على قيام الإتحاد الاشتراكي العربي وانتهاج الاشتراكية نظاماً سياسيا واقتصاديا للبلاد. وحسب التقرير فإن هذه الساعة الذهبية من موديل "رولكس - داي ديت" و تُعرف ب " الساعة الرئاسية" قد أُنتجت بإصدار مميز عام 1956، لكنها أُنتجت في نفس عام الإهداء، وهي تُصنع من المعادن النفيسة فقط، وكان قد اقتناها عدد كبير من رؤساء العالم، من أشهرهم الرؤساء الأميركيين جون كينيدي و رونالد ريجان وجيرالد فورد. وكان عبد الناصر الذي بدا مُعجباً بالساعة حرص على ارتدائها حتى وفاته 1970. وكان سعرها يبلغ 700 دولار وهو ثمن باهظ في ذلك الوقت.وهذه الساعة بعد أن آلت إلى خالد حفيد عبد الناصر قرر الأخير الاتفاق مع الشركة لعرضها في مزادها القادم في الشهر القادم. وتتكشف لنا من هذا الساعة التي لم يكن معروف سرها حينما كانت على معصم عبد الناصر ثلاث دلالات :
الأولى: أنها تكشف جانباً من جوانب أسرار العلاقة الوطيدة التي كانت تربط بين عبد الناصر والسادات والتي حرص الأخير على تمتينها بكل السُبل والحيل الممكنة طوال حياك عبد الناصر في الرئاسة، ليكون صاحب حظوة مميزة عنده،وكان عبد الناصر مثلاً يتردد على منزل السادات عندما يحتاج للراحة واستئناس أحاديثه خارج السياسة، كما يأنس لطريقة صنعه القهوة كما جاء في أحد أحاديث هيكل للجزيرة ،وقد أثمر هذا التأثير العاطفي عن اختيار عبد الناصر للسادات نائباً للرئيس،لكن مالبث أن توفى الأول ليخلفه الثاني وينقلب بعد أقل من عام على فكر ومباديء الأول بزاوية 180 درجة، وبقية القصة معروفة.
الثانية: ثارت تساؤلات عديدة على إثر هذه الخطوة التي أقدم عليها جمال حفيد عبد الناصر من ابنه خالد الذي قرر تسمية اسمه بهذا الاسم تيمناً باسم أبيه جمال، ومن هذه التساؤلات لماذا قرر الحفيد الذي يحمل اسم جده عرض الساعة على ذلك المزاد العالمي بدلاً من إهدائها إلى متحف بيت جمال عبدالناصر بمنشية البكري أو متحف مجلس قيادة الثورة في الجزيرة، وهنا تتكشف لنا حقيقة غياب قيمة الاعتبارات الثقافية التراثية و السياسية وأولية المصالح عليها عن ذهنية جيل الأحفاد وبعض ابناء عبد الناصر نفسه، وسبق لنا أن تناولنا قصة تلبية عبد الناصر رغبة ابنته منى في إقامة حفل عرس أسطوري باذخ ضخم، وكان هذا أيضاً بعد عامين من التأميمات الاشتراكية الكبرى.
الثالثة : أن عبد الناصر يجمع شيئاً من المتناقضات في شخصيته فقد كان رغم إعلانه تبني الفكر الاشتراكي إلا أنه كانت تنازعه نوعاً من حب الملكية الخاصة والنزعات الرأسمالية بهذا القدر أو ذاك، وهذا المتناقضات قد ظهرت جلياً في جمعه في الحكم التي يُفترض بأنه اشتراكي عناصر من الأجنحة الثلاثة التي أُشتهر به حكمه ألا وهي اليمين والوسط واليسار، دون أن تبدو له سياسة واضحة حاسمة لترجيح اليسار باعتباره الجناح الأقرب لمبادئه الاشتراكية وكانت النتيجة، أن كان اليسار، سواء من العناصر الماركسية أو العناصر الناصرية، هم في الغالب ضخايا العسف خلال حكمه، فكان أن ورث اليمين حكمه بقيادة السادات الذي قام بعد فترة وجيزة بتصفية الجناح اليساري تحت شعار "ثورة التصحيح" في مايو 1971.وفي الوقت الذي لا أحد يعرف كيف قد اشترى السادات تلك الساعة بذلك الثمن الباهظ،وكيف دخلت مصر ولعل عبد الناصر وحده الذي يعلم بذلك، لكنه لم يرفضها كهدية، فإن علي صبري وهو من أكبر أقطاب اليسار الناصري (تولى منصباً قيادياً في الإتحاد الاشتراكي وكان أحد نواب رئيس الجمهورية) صادرت الجمارك المصرية له في أواخر حياة عبد الناصر بضائع وتُحف ثمينة أتى بها من موسكو، بذريعة التهرب الضريبي ، وتم نشر هذه الواقعة والتشهير به في صحيفة الأهرام، وما كان ليحدث هذا بطبيعة. الحال بدون علم عبدالناصر مقدماً.