على عكس الصورة النمطية الشائعة في عالمنا العربي بأن وزير الداخلية عادة مايكون أعلى ضابط في جهاز الأمن الداخلي، وتتصف شخصيته بالصرامة، ويأتي اختياره على خلفية كفاءة أمنية أو ترقيته في الجهاز نفسه إلى مرتبة وزير، فلعل وزير الداخلية اللبناني الأسبق نهاد المشنوق واحد من الندرة بين وزراء الداخلية العرب الذين كسروا تلك الصورة النمطية،فقد تولى حقيبة "الداخلية" مرتين في بلاده خلال العقد الماضي، مرة في حكومة الرئيس تمام سلام 2014، ومرة في حكومة الرئيس سعد الحريري 2019،وقد تولى هذا المنصب على خلفية خبرة مديدة ومؤهلات ثقافية وإعلامية وسياسية،فهو خريج علوم سياسية، و أُنتخب نائبا في البرلمان عام 2009، وقبل ذلك كان إعلامياً متمرساً لا يشق له غبار، إذ عمل في الصحافة منذ منتصف السبعينيات، وقد كتب مقالات في صحف لبنانية متعددة، من بينها "السفير". مؤخراً استضافت قناة "m t v" هذه الشخصية المحنكة حيث أُجري معه حوار شامل حول التطورات الخطيرة المتسارعة التي يمر بها وطنه لبنان في ضوء العدوان الإسرائيلي الحالي عليه. وإذ تكتسب إجاباته-في تقديرنا- قدراً كبيراً من المصارحات العقلانية في تحليل الأوضاع الراهنة لبلاده فإننا سنحاول تالياً أن نلخص أبرز مما جاء فيها في أربع نقاط :
1-أرجع المشنوق جذور الانقسام الداخلي اللبناني بدءاً من السبعينيات إلى اتفاق القاهرة 1969 الذي أضفى شرعية على وجود السلاح الفلسطيني، وجرّد الدولة من حقها السيادي على هذا السلاح أو وضعه تحت ضوابطها، ما أفضى لاحقاً إلى تفجر الحرب الأهلية في 1975. وأعترف بأن المسلمين في الحرب الأهلية انتصروا خطأً لسلاح المقاومة الفلسطينية ضد المسيحيين، في حين أن نتائج الحرب المدمرة طالت حتى المسيحيين،وأشار بما معناه أن تلك الحرب العبثية كان حصادها كارثياً مروعاً على مختلف الصُعد، ولم يخرج أحد من الطرفين منها منتصراً، وهو ما أعترف به لاحقاً كلاهما في نقد ذاتي خجول.
2-انتقد المشنوق قرار حزب الله بالدخول في حرب مع إسرائيل تحت شعار "إسناد غزة" أو "وحدة الساحات"ووصف هذا القرار بأنه كان خطأً استراتيجياً ودينياً في وقت واحد. وتطرق في هذا الصدد إلى فتوى أصدرها الإمام خامنئي إيرانية يستند إليها القرار متساءلاً: لماذا لا تسري هذه الفتوى على الإيرانيين ولماذا تطبق فقط على شيعة لبنان، ليدفع كل لبنان -دولة وشعباً- فواتيرها الكارثية، مضيفاً: بأن المقاومة الفلسطينية لم تطلب من لبنان تحديداً هذا الإسناد، سيما أن لبنان الذي تم توريطه في هذه الحرب، وهو مثقل بالجراح والأزمات المتعددة الخانقة طوال عقود لم تؤد هذه المشاركة لإسناد غزة إلى أي نتائج عسكرية تُذكر لثني العدو الإسرائيلي عن عدوانه الوحشي على غزة، أو لتخفيف من حدة وحشيته عليها.
3-حذّر المشنوق من لغة التخوين في غمرة الانقسام والجدل الحالي المحتدم بين فريقين من اللبنانيين: فريق مدافع عن قرار حزب الله بلا حدود في خوض حربه ضد إسرائيل تحت شعار "وحدة الساحات" وفريق آخر منتقد لذلك القرار ويعتبره متهورا أنفرد به الحزب باسم طائفة وباسم الشعب برمته دون تفويض شرعي يأخذ بعين الاعتبار موقف الدولة السيادي لمثل هذا القرار الخطير، ولا بعين الاعتبار لمواقف وآراء سائر القوى السياسية والدينية التي يتكون منها نسيج لبنان الاجتماعي والثقافي والسياسي .
4-أكد أن اللبنانيين محكومون بالتعايش في وطنهم المشترك ولا مفر لهم سوى الحوار بصبر ونفس طويل من أجل تكوين السلطة على أساس استعادة الدولة اللبنانية لسيادتها الداخلية ولحصر السلاح في يدها وحدها، وصولا إلى تبني استراتيجية دفاعية وطنية مشتركة، وأنه بدون هذا التوافق لن يستطيع لبنان أن يؤدي دوره كدولة مستقلة تدافع عن سيادتها ومصالحها بصورة على الصعيدين العربي والدولي.
هذا وقد أشاد المشنوق بالدور الكبير والمسؤول الذي يقوم به كل من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورئيس البرلمان نبيه بري في الظروف البالغة الدقة والخطيرة التي يمر بها لبنان حالياً وطناً وشعباً.
والحال إن هذا العرض الذي جملنا معانيه باسلوبنا في النقاط الأربع السابقة، لا يغني البتة عن أهمية مشاهدة الحوار كاملاً والذي استمر أزيد من ساعة. على أن اللافت فيه أن آراء المشنوق تلتقي في الكثير منها مع آراء كثرة من الشخصيات والقوى الوازنة على الساحة السياسية، والتي تابعنا حوارات عديدة أُجريت معها على القنوات الفضائية أو قنوات اليوتيوب اللبنانية على مدى شهر كامل منذ بدء العدوان الإسرائيلي البري. وأخشى ما نخشاه أن يتم التعامل مع آراء كل هذه الشخصيات والقوى المهمة الوازنة بلغة التشنج والعناد والتخوين من قِبل مؤيدي حزب الله وأنصاره من مختلف القوى السياسية دون قراءتها بهدوء وعقلانية بما يسمح لإيجاد قواسم مشتركة من كلا الجانبين، وتفادي ما من شأنه أن يفضي -لا سمح الله- إلى احتقان سياسي شديد غير محمود العواقب قد يُعيد تكرار الأجواء المحتقنة التي أفضت لانفجار الحرب الأهلية في خريف 1975 .