جاءت جائحة “كوفيد 19” الأخيرة لتثبت جهوزية البحرين الفائقة للتعامل مع الأزمات، فقد استطاعت المملكة الانتقال بسلاسة إلى أنماط العمل عن بعد بفضل البنية التحتية الرقمية القوية، إلى جانب الوعي التقني الذي يتمتع به السكان، لكن ما إن انتهت الجائحة حتى عدنا لأنماط العمل القديمة، وتلاشى الكلام الجميل عن فوائد العمل عن بعد، وعادت الزحمة إلى الشوارع، وارتفعت التكاليف على أصحاب الأعمال.
ولمعرفة مدى التوسع في العمل عن بعد عالميا، يكفي أن نذكر أنه وفقا لأحدث تقرير “جالوب” فإن 7 من كل 10 موظفين مكتبيين في الولايات المتحدة يعملون عن بعد، وقد زاد العمل عن بعد بنسبة 159 % منذ العام 2009 وحتى اليوم، و88 % من المنظمات والشركات حول العالم لديها نظام العمل عن بعد، و65 % من العاملين عن بعد وافقوا على خفض أجورهم بنسبة 5 % مقابل عدم عودتهم للعمل المكتبي، كما يتجاوز دخل 40 % من العاملين عن بعد مئة ألف دولار سنويا.
في الواقع يتميز العمل عن بعد بالعديد من الجوانب، فمن حيث الإنتاجية أتاح هذا النمط للموظفين فرصة التركيز على أداء المهام الفعلية من دون الانغماس في الأحاديث الجانبية أو الاجتماعات الطويلة التي قد تستنزف الوقت، إضافة إلى ذلك تمكن العديد من الموظفين من اختصار الوقت الذي يقضونه في التنقل، ما انعكس إيجابا على صحتهم النفسية والجسدية وزاد من إنتاجيتهم بشكل ملموس.
كما أن العمل عن بعد وفر للموظف مرونة أكبر في تنظيم يومه، من حيث تحديد فترات الراحة والعمل بما يتناسب مع احتياجاته الشخصية والمهنية، وهذه المرونة دفعت المؤسسات أيضا لاعتماد أدوات تكنولوجية متطورة، مثل برامج إدارة المهام ومنصات التعاون الرقمي، التي عززت كفاءة العمليات وزادت قدرتها على الأداء بفعالية أكبر، وعلاوة على ذلك ساعد العمل عن بعد على تسريع عملية رقمنة الخدمات الحكومية، ما جعل البحرين تتصدر الدول التي تعتمد على التكنولوجيا لتسهيل حياة مواطنيها.
ومن وجهة نظري كوني رائد أعمال بخبرة تربو على الأربعين عاما، أرى أن العمل عن بعد يشكل فرصة ذهبية لتحقيق تطور اقتصادي واجتماعي مستدام في البحرين، وعليه ينبغي على القطاع العام والخاص التفكير في تبني نموذج مرن يتيح للموظف اختيار أيام محددة للعمل عن بعد بالتنسيق مع الجهة التي يعمل بها، وهذا النموذج لن يلزم الموظف بالعمل الكامل من المنزل أو المكتب، بل سيوازن بين الفوائد العملية والاحتياجات التشغيلية.
وهذا الأمر يستلزم وضع إطار تنظيمي متكامل لتنظيم العمل عن بعد يضمن حقوق الجهتين الموظف وصاحب العمل، بما في ذلك تحديد ساعات العمل بشكل واضح لتجنب تكليف الموظفين بمهام خارج أوقات العمل الرسمية، ما سيقلل من التحديات والسلبيات التي قد تنشأ نتيجة غياب التواصل الشخصي بين الزملاء، وستتيح في الوقت ذاته تحقيق أفضل النتائج المرجوة من هذا النموذج.
وفي السياق نفسه، تحضرني المبادرة الأخيرة لصندوق العمل “تمكين” التي تتمثل في برنامج لتأهيل وإشراك البحرينيين في العمل الحر (Freelancing)، الذي تم إطلاقه بالتعاون مع منصة “Freelancer.com”، هذه المبادرة التي جاءت في وقتها، إذ تقدم للبحرينيين فرصا واعدة للدخول في سوق العمل الحر، سواء كخيار للعمل الأساسي أو المكمل، وتساهم في تمكين الشباب البحرينيين من دخول أسواق العمل العالمية وتطوير مهاراتهم بما يتناسب مع احتياجات المستقبل، ولا يقتصر أثر هذا البرنامج على دعم الأفراد فقط، بل يمتد ليشمل تنمية القطاع الخاص عبر زيادة الإنتاجية وتوظيف التكنولوجيا بطرق أكثر كفاءة.
ولا يسعني هنا إلا أن أثني على “تمكين”؛ لجهوده المستمرة ومبادراته المبتكرة في دعم القوى العاملة البحرينية، التي تسهم بلا شك في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام للبحرين، وتفتح آفاقا جديدة للبحرينيين للتميز على مستوى المنطقة والعالم، وتعكس رؤية البحرين المستقبلية لبناء اقتصاد مستدام يعتمد على الابتكار والتكنولوجيا، وتعزز تنافسية البلاد على المستوى الإقليمي والعالمي.
وإذا كانت أزمة “كوفيد 19” قد علمتنا شيئا فهو أن العمل عن بعد ليس مجرد خيار مؤقت، بل هو ضرورة ملحة لتطوير بيئة العمل في المستقبل، والبحرين بفضل بنيتها التحتية القوية ووعي شعبها التكنولوجي تمتلك فرصة كبيرة للريادة في هذا المجال، لذلك لابد من تبني العمل عن بعد ضمن الاستراتيجية الوطنية لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وترسيخ مكانة البحرين كدولة رائدة في التحول الرقمي في المنطقة، والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتعزيز رفاهية المواطن البحريني، وبناء مستقبل أكثر استدامة ومرونة.