ما يحدث في غزة وجنوب لبنان يذكرنا بتلك الفتاة الأميركية النبيلة راشيل كوري (1979 - 2003)، والتي جاءت في زهرة شبابها ضمن وفد لحركة تضامن دولية تتصدى للممارسات الصهيونية، حيث كانت إسرائيل تقوم بعمليات هدم لمنازل الفلسطينيين عام 2003 أثناء الانتفاضة الثانية. أمضت راشيل حوالي 50 يوما منذ وصولها الأراضي المحتلة يوم 25 يناير 2003 إلى 16 مارس من نفس العام، كانت كفيلة بأن تغير نظرتها تماما تجاه القضية الفلسطينية. خالطت أسرة فلسطينية، أكلت من طعامهم وعانت معهم لفحة البرد داخل منزل تثقب حوائطه طلقات الرصاص، كتبت في يومياتها: أمضيت ليلة البارحة وصباح هذا اليوم مع عائلة فلسطينية وقد أعدوا لي العشاء.. الغرفتان الأماميتان من البيت غير صالحتين للاستعمال لأن الجدران مخترقة بالرصاص والعائلة كلها تنام في غرفة وجميعنا نتقاسم البطانيات.
كان ما شاهدته هذه الفتاة الغضة خلال أسبوعين من هدم بيوت الفلسطينيين وقتلهم بدم بارد أكبر من أن يحتمله عمرها الصغير وقلبها البريء. تكتب: مر أسبوعان وساعة واحدة منذ وصلت إلى فلسطين ولا أجد الكلمات لوصف ما أرى، ولا أدري إذا كان هناك أطفال كثيرون هنا عاشوا خلف جدران لم تخترقها قذائف الدبابات. وإذا كنت أشعر بالغضب لدخولي فترة وجيزة عالم هؤلاء الأطفال، فإنني أتساءل ماذا سيكون شعورهم هم إذا دخلوا عالمي؟ حيث الماء مضمون لا تسرقه الجرافات ليلا، وجدران مستقرة لا تسقط فجأة في منتصف الليل.. أتساءل إذا كان في وسعه بعد ذلك أن يسامح العالم. دهشة راشيل كانت بالغة من معاملة الفلسطينيين الطيبة لها حتى أنها وصفتها بالأمر الخيالي.
فكتبت لأمها عن الجريمة التي ترتكبها أميركا حين تساعد إسرائيل: إن ما نموله هنا أمر شرير حقا.. يجب أن يتوقف هذا. راشيل التي اعتبرت زيارتها لفلسطين أفضل عمل في حياتها، دفعت عمرها دفاعا عن حق الفلسطينيين فى الحياة. وقفت بقوة وثبات أمام جرافة إسرائيلية لمنعها من هدم بيت أحد الفلسطينيين، ظنت أن السائق سوف يتوقف عندما يرى ملامحها الأجنبية الشقراء، وقفت بين البيت والجرافة، لكن السائق المجرم تقدم نحوها بسرعة صانعا كومة تراب أمامه، ودفع الركام الترابي إلى راشيل لتصعد فوقه وتدفن تحته، واصل السائق التقدم بكل وحشية لتموت راشيل هذه الميتة الشجاعة دفاعاً عن الإنسانية وحق الفلسطيني في البيت والحياة. الغريب أن التحقيقات الإسرائيلية قالت إن الجرافة لم تقتل راشيل كوري ولكن الأنقاض سقطت عليها! وبالتالي أصبح مقتلها حادثا عرضيا لا يحاسب عليه أحد. هذه فلسفة الحكم والإدارة في إسرائيل تجاه أي أحد يقف ضد الدبابة أو الجرافة المدمرة، وقتل أكثر من 41 ألف فلسطيني في غزة أو ضرب جنوب لبنان واغتيال حسن نصرالله وقادة حزب الله كلها ليست إلا حادثا عرضيا لمن يقفون أمام الدبابات والقنابل أو الجرافات الإسرائيلية.
مدير تحرير “الأهرام”