تمر اليوم ذكرى وفاة الرئيس المصري والزعيم العربي جمال عبدالناصر، ورغم كل الأخطاء القاتلة التي شابت تجربته في الحكم، وأعظمها هزيمة 1967 التي ما برح العرب يعانون من تداعيات نتائجها الكارثية المتواصلة، فإنه تمكن من تحقيق تحولات اجتماعية ملموسة على الأرض لصالح العمال والفلاحين والذين كانت أوضاعهم مأساوية قبل الثورة؛ جراء الاستغلال الإجرامي لصالح أقلية نسبتها 1 % من السكان، وكُشف النقاب مؤخرا عن مقاطع أرشيفية حية للحوارات الصريحة التي جرت في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي أقر الميثاق، برئاسة عبدالناصر في قاعة الاجتماعات الكبرى بجامعة القاهرة: مايو 1962، وهو المؤتمر الذي صادق على “الميثاق الوطني” الذي حدد مبادئ تطبيق “الاشتراكية العربية”، والتي لا تختلف في جوهر معظمها عن أُسس النموذج الاشتراكي السوفييتي، بل وأطلق على التطبيق الاشتراكية العلمية مع تطعيمها ببعض الشعارات القومية والإسلامية، فيما كان وقتذاك مئات الشيوعيين المصريين يقبعون في أقبية السجون؛ لمعارضتهم الأسلوب المتسرع الذي تمت به الوحدة الاندماجية مع سوريا، وقد فشلت فعلا بعد انفصال الأخيرة عن دولة الوحدة في سبتمبر 1961 في مثل هذا اليوم الذي يصادف ذكرى وفاة عبدالناصر، وبلغ مجموع أعضاء المؤتمر 1500 عضو منتخب، 379 منهم يمثلون الفلاحين، و310 يمثلون العمال، و150 يمثلون ما أُطلق عليها “الرأسمالية الوطنية”، و293 يمثلون النقابات المهنية، و135 موظفاً، و23 سيدة تمثلن النساء. على أن المقاطع الأرشيفية الحية التي تم بثها تبين لنا مدى جدية بعض الحوارات مع عبدالناصر والتي شارك فيها عدد من بسطاء العمال والفلاحين والطلبة والنساء على ضآلة تمثيلهن، وتعكس تساؤلاتهم ومداخلاتهم ما يتحلون به من وعي سياسي ومستوى ثقافي رفيع. ومن المفارقات الغريبة أنه في الوقت الذي كفّر فيه الشيخان سيد سابق ومحمد الغزالي، عميد الرواية العربية الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ؛ لروايته “أولاد حارتنا”، مطلع الستينيات، وكلاهما محسوب على جماعة “الإخوان المسلمين”، واعتقل الأول خلال السنوات الأولى من الثورة، وكان يُعرف بـ “مفتي الدم”، لكن عبدالناصر وظّف شعاراتهما الدينية لصالح حملته الإعلامية على الشيوعيين في مصر وسوريا والعراق لتحفظهم على مشروع الوحدة.
ورغم هجومهما خلال المؤتمر على الاختلاط بين الجنسين والاعتراض على عمل المرأة، ورفض عدم تقيد الفتيات بالاحتشام في ملابسهن على تعبيرهما، إلا أن عبدالناصر سايرهما بالقول: إن المسؤولية تقع على الرجال لأنهم هم الذين سمحوا لبناتهم بلبس آخر صيحات الموضة كل سنة! مذكراً بمطالب زعيم الإخوان المسلمين الشيخ حسن الهضيبي في أوائل الثورة بفرض الحجاب على الفتيات في الجامعات والمجتمع وإغلاق دور السينما في الوقت الذي كانت لديه بنت طالبة جامعية “سفور”، والمدهش أنه رغم سخرية عبدالناصر من أسئلة سيد سابق والتي حذّر في بعضها من أن تعني حرية العقيدة الدينية في الميثاق جواز الردة عن الإسلام، إلا أن عبدالناصر طالبه بأن لا يقتصر عمله على خطب الجوامع والمساجد، بل حضه على أن يذهب إلى القرى والمدن ويحشد الناس خلفه، وأن يرتاد حتى المقاهي في “شارع فؤاد”. ويبدو هنا أن عبدالناصر نسي الاسم الجديد الذي قرره للشارع بعد الثورة: “26 يوليو”، ومن المفارقات أيضاً أن عبدالناصر في 1965 بعد ثلاث سنوات فقط من انقضاض المؤتمر نظّم في منزله حفلاً باذخاً لزواج ابنته منى دعا إليه أشهر نجوم المطربين والراقصات رقصاً شرقياً!.
كاتب بحريني