في عالمنا الحالي، تتشابك الأخبار والمعلومات مع الاقتصاد والسياسة، بينما يبرز مفهوم “اقتصادات الإعلام” كحلقة وصل بين هذين الفضائين المترابطين، فلم يعد الإعلام مجرد ناقل للأخبار والقصص، بل تحول إلى صناعة ضخمة ومعقدة، تخضع لقوانين العرض والطلب وتتأثر بالسياسات الاقتصادية والتحولات التكنولوجية.
وحدد الاقتصادي ليونيل روبنز تعريفا للاقتصاد على أنه “دراسة السلوك الإنساني كعلاقة بين الغايات والموارد النادرة ذات الاستعمالات المتعددة”، وبينما تتجاوز حاجات الإنسان اليوم مجرد الأكل والشرب والمأوى لتشمل المعرفة والترفيه، يصبح الإعلام سلعة اقتصادية كغيرها، تخضع لقوانين السوق وتتأثر بتقلباتها.
في صلب هذا المفهوم، يعرف الباحث روبرت بيكارد اقتصادات الإعلام على أنها “دراسة كيفية قيام المؤسسات الإعلامية بتلبية حاجات ورغبات الجمهور المعلوماتية والترفيهية، وحاجات المعلنين، وحاجات المجتمع بشكل عام، بما يتوافر لديها من موارد مالية”، هذا التعريف يسلط الضوء على التوازن المفترض أن تحققه المؤسسات الإعلامية بين تحقيق أهدافها المالية وتلبية الاحتياجات المتنوعة لجمهورها.
قفزات هائلة سُجّلت بين ولادة الصحف قبل 400 عام والإذاعة والتلفزة في الربع الأول من القرن الماضي وبين الثورة المعلوماتية العاتية التي تجتاح صناعة الإعلام بالتوازي مع مليارات المعلومات المتدفقة عبر الفضاء الإنترنتي.
يعرف د. مصطفى كافي اقتصادات الإعلام بأنها “فرع من فروع الاقتصاد التطبيقي الذي يدرس: الإنتاج، التوزيع، الاستهلاك لمحتويات وسائل الإعلام”، هذا التعريف يركز على الجوانب العملية للإعلام، بدءًا من إنتاج المحتوى وتوزيعه وصولًا إلى استهلاكه من قبل الجمهور، يشمل إنتاج المحتوى الإعلامي بمختلف أشكاله، سواء كانت مطبوعا أو مرئيا أو مسموعا، ويتطلب موارد مالية وبشرية وتقنية كبيرة. يركز التوزيع على كيفية توصيل المحتوى الإعلامي إلى الجمهور عبر مختلف القنوات، سواء كانت تقليدية أو حديثة. والاستهلاك يتعلق بمدى قبول الجمهور للمحتوى وتفاعلهم معه، وهذه الخطوة تحدد نجاح أو فشل أي منتج إعلامي.
في عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، تواجه اقتصادات الإعلام تحديات جديدة ومعقدة؛ فالهواتف الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي غيّرت قواعد اللعبة، قواعد الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، إذ جعلت الوصول إلى المعلومات أسرع أسهل، وأتاحت فرصا للمستخدمين لإنتاج ونشر المحتوى الخاص بهم، ما خلق فيضانًا هائلًا من المعلومات، وهذا الفيضان يتعارض بشكل مباشر مع مفهوم الندرة - حجر الأساس في الاقتصاد - ما يطرح تساؤلات بشأن قيمتها الاقتصادية وكيفية تحقيق الربحية.
اليوم، تتطلب اقتصادات الإعلام تطويرًا في التعريفات وأدوات التحليل لمواكبة التغيرات المتسارعة؛ فالمنافسة الشرسة، والتطور التكنولوجي المستمر، والتغيرات في سلوك المستهلك (الجمهور)، كلها عوامل تؤثر على صناعة الإعلام وتتطلب دراسة وتحليلًا دقيقين، ولا يمكن تجاهل التحدي الذي يطرحه الذكاء الاصطناعي المرتبط بحقوق الملكية الفكرية.
في المحصلة، اقتصادات الإعلام مجال متنامي يربط بين فضاءين، يسعى إلى فهم وتحليل العلاقة بينهما، ومع التطورات التكنولوجية المتسارعة، يصبح هذا المجال أكثر أهمية، ويتطلب منا فهمًا أعمق لتحدياته، التي تنقلنا لمفهوم ريادة الاعلام، حتى نتمكن من بناء مستقبل إعلامي ابتكاري وأكثر استدامة وفعالية، يحقق أهدافه الاقتصادية ومسؤوليته الاجتماعية.