بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، تم تكليف أوبنهايمر المولود في نيويورك عام 1904 بمهمة رهيبة، لعلها من أخطر مهمات الحرب. كان عليه وهو عبقري الرياضيات وخريج جامعة هارفارد أن يطوف أميركا ليختار صفوة العلماء، ثم يجمعهم في فريق واحد يعيش داخل معامل مغلقة في قلب الصحراء تحت حصار عسكري صارم، يعملون تحت قيادته لصنع أول قنبلة ذرية. أوبنهايمر الذي تخصص في الفيزياء النظرية كان شخصا منطويا لا علاقة له بالآخرين إلا قليلاً، ولا علاقة له بالسياسة على الإطلاق، لكنه كان عبقريا في الرياضيات إلى درجة مذهلة، حتى أنه في إحدى المرات كان يلعب الكرة مع زملائه في فناء الكلية، عندما قذف أحد الزملاء الكرة بشدة، وكان أحد الأساتذة يمر فنهرهم، قائلا: إن الكرة قد تصيب أحد العابرين، وبسرعة غريبة أجرى أوبنهايمر للأستاذ عملية حسابية، حسب فيها قوة الدفع ومقاومة الهواء، وما إلى ذلك، حتى أثبت بسلسلة من المعادلات الرياضية أن الكرة لا يمكن أن تصل إلى أي عابر طريق.
بغض النظر عن اقتناعنا أو عدمه بنظرية الكرة والطريق، لكن الملفت أن هذه النظرية العجيبة تشبه فكرة صناعة القنبلة الذرية، فالذين سعوا إلى صناعتها من السياسيين كان هدفهم صناعة السلام في العالم. يحكي أوبنهايمر أنه أصيب بهزة عنيفة عام 1936 عندما سمع عن انتصارات هتلر في أوروبا بما أصبح يهدد حريات الناس وكرامتهم، ومنذ هذه اللحظة فكر أن يساهم بشكل ما في إنقاذ المجتمع، خصوصا بعد الأزمة الاقتصادية وحالة الفقر التي بدأت آثارها تظهر على تلاميذه. هو لم يكن يعلم ما الدور الذي عليه القيام به لكن عندما عرضوا عليه تكوين فريق لصناعة القنبلة الذرية والقضاء على هتلر من أجل أن يعم السلام أرجاء العالم، شعر أن اللحظة التي كان ينتظرها تحققت!
فنظرية القنبلة الذرية التي تحقق السلام في العالم تشبه نظريته في لعب الكرة دون إصابة أحد من المارة!
وإذا كان لاعبو الكرة ليسوا في عبقرية أوبنهايمر صانع القنبلة الذرية فمن الطبيعي أن تصيب الكرة من يمرون في الطريق، وإذا كان رجال السياسة ليسوا في طيبة أوبنهايمر أو انطوائيته فإنهم يعلمون تماما أن الوصول إلى السلام ليس مستحيلاً لكنه يحتاج بداية إلى ضرب مدينتي هيروشيما وناجازكى وتدميرهما بالقنبلة الذرية! وتستسلم اليابان على الفور بعد مقتل 140 ألفا في هيروشيما و80 ألفا في ناجازاكى.
وتنتهي الحرب العالمية بانتصار الحلفاء ويصبح سلام الاستسلام هو المفروض بين المتحاربين.
وحتى يتحقق هذا الاستسلام للعدو تسابق المنتصرون على امتلاك السلاح النووي، انقسموا إلى معسكرين “حلف وارسو” و”حلف الأطلسي”، ظلا يتصارعان فيما أطلق عليه الحرب الباردة حتى انهار الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو، لكن روسيا لم تعلن الاستسلام، ولا يمكن أن تعلن ذلك ولديها من السلاح النووي ما يجعل العالم كومة رماد. ثم إن السلاح النووي انتقل من دول الحلفاء إلى الوكلاء والأتباع في العالم، وأصبح الصراع على امتلاك السلاح الذري شعار أمان وسلام لمن يدخلون النادي النووي. كل وكيل يقول طبقا لنظرية أوبنهايمر إن الكرة أو القنبلة الذرية ستحقق السلام ولن تصيب أيا من المارة بأذى. لكن نظرة على العالم المشتعل بالحروب تقول إن الكرة أصابت جميع المارة، وهم ينتظرون أن يصيبهم الرذاذ النووي القاتل رغم أنهم مجرد عابرين في ذلك الكون الفسيح. علينا أن نتذكر أن الرئيس الأميركي ترومان كان يقول لا أريد أن ألتقي أوبنهايمر لقد صنع القنبلة الذرية وأنا فجرتها.
مدير تحرير “الأهرام”