تشكّل “الحيه بيّه” جزءا من التراث اللاماديّ في مملكة البحرين.. لوحة اجتماعية ثقافية يتوارثها الأبناء جيلا بعد جيل، فلا يمرّ موسم الحجّ، ولا يقف الحجّاج على عرفات إلا وقد وقف الأطفال على امتداد سواحل قرى البحرين ومدنها وقد أمسكوا بسلّة الحيّه بيه أو علّقوها في رقابهم، وتَحلّوْا بأجمل الثياب الشعبيّة، وتزيّنوا كأحلى ما يكون: الفتاة تلبس ثوب “البخنق” المطرز بخيط الزري الذهبي، والصبيان يلبسون “الثوب والسديري والقحفية”.. ثمّ ينشدون أغنية الحيه بيه قبل رمي السلة في البحر.
سلال صغيرة من “الخُوص” يزرع فيها الأطفال بعض الحبوب، مع بداية موسم الحجّ، ويعلّقونها على جدران المنازل ويرعوها حقّ رعايتها بالسقي حتى تنمو وترتفع أوراقها، ويزداد تعلّقهم بها.. ثم يلقونها في البحر تزامنا مع وقفة عرفة، ويدعون الله في أهازيجهم أن يجعل عيدهم سرورا ويعيد حجاجهم من بيت الله الحرام آمنين. لذا رجح المختصّون في دراسة التراث أنّ مصطلح “الحيَّه بيّه” قد يكون من عبارة “الحَجّي بِيي” أي “سيأتي الحاجّ” من الحج بعد أن يكمل مناسكه، وكأنّ الأطفال إذْ يُلقون هذه السلال بعد أن اعتنوا بها أسبوعين أو أكثر، يضحّون بأعز ما لديهم من أجل عودة أهاليهم سالمين. وهذا المشهد الموسميّ الذي تحرص معظم العائلات على إحيائه هو لون من ألوان التراث المادي الذي يحتاج دوما إلى تعهّد ورعاية من أجل استدامته. وقد تصاعد الاهتمام عالمياً بمفهوم التراث اللامادي، وتحركت من أجله المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وكذلك اليونسكو لحمايته من التلاشي والنسيان نظرا للمخاطر التي تتهدّده؛ ذلك أنّ نمطيّة العولمة تهدّد التراث اللاماديّ بالاندثار والكثير من الصناعات التقليدية والحرف الشعبية تلاشت أو تكاد في العديد من البلدان! وإذا كانت المحافظة على التراث المادي ميسورة سواء بتعهّد المعمار القديم وحماية الآثار من الانهيار، أو بوضع بعض الآثار في المتاحف، فإنّ استدامة التراث الثقافي اللامادي من سنع وفنون وعادات زواج وختان وغيرها... تحتاج جهودا مضاعفة.
ولا تتحمّل جهة معيّنة مسؤولية ذلك بمفردها، وإنّما هي مسؤوليّة كل مكوّنات المجتمع ومؤسّساته الأهلية والحكومية ابتداء من الأسرة إلى المدرسة مروراً بالمؤسسات الخاصّة والعامة ذات الصلة والجمعيات الثقافية والأهلية، وكذلك الجامعات.
وإذْ يساهم إدراج التراث اللامادي في بعض المناهج التربوية المدرسيّة والجامعية في حفظ هذا التراث من الضياع والاندثار، فإنّ الممارسة اليومية والاستمرار في هذه العادات هو الذي يحميها حقيقة من الاندثار حتى لا تصير محنّطة في الكتب كما بعض الآثار في المتاحف.
*كاتب تونسي ومدير تحرير مجلة البحرين الخيرية