كان لابد أن يباع الفيلسوف أفلاطون (427 – 347 ق.م) في سوق العبيد، إنه يتكلم ويكتب عن المدينة الفاضلة! هل هناك جنون أكثر من ذلك؟! جنون الفيلسوف الباحث عن مدينة فاضلة على هذه الأرض، وجنون الحياة التي باعت الفيلسوف في سوق العبيد لأنه فكر بهذه الطريقة المثالية! كان أفلاطون أول الفلاسفة الذين كتبوا عن مدينة فاضلة يسودها العدل والرحمة والمساواة بين جميع البشر، ووضع الأسس والقواعد اللازمة لتحقيق حلمه هذا. طالب بأن يكون الأطفال الذين يولدون ثمرة للزواج المشاع حيث يتصل أفضل الرجال بأفضل النساء تحقيقا لغرض واحد هو إنجاب نسل متميز، وأن تخلو مدينته الفاضلة من الزواج ونظام الأسر، والأطفال الذين يولدون يتم عزلهم عن آبائهم، ويودعون في محضن الدولة، فلا يعرف الآباء أبناءهم، ولا الأبناء آباءهم، يرى أفلاطون أن هذه الطريقة تحقق الأخوة العالمية فكل فرد في هذه الدولة يعد أخا لأي إنسان آخر.
الأطفال في هذه المدينة يتلقون تعليما حتى سن العشرين، يكون معظمه ألعابا رياضية وموسيقى، فالرياضة تزيد تناغم الروح، والموسيقى هي روح الكون والمعنى المختفي الذي يمسك العالم من أن يتداعى ويسقط في الفوضى، وفي هذه المدارس يختلط الجنسان ويتخففون من ملابسهم عند قيامهم بالتمرينات الرياضية، فالفضيلة شعار المدينة، والتعليم لذة ومتعة وليس تعذيبا، وينبغي للمدرسة أن تكون ملعبا للعقول يحاول كل طفل أن يفوق أقرانه في لعبة تبادل الآراء. ويسير التعليم في جمهورية أفلاطون حتى سن العشرين ثم يعقد للطلبة امتحان عسير، من يفشلون فيه ينتقلون إلى الطبقة الدنيا، طبقة الزراع والصناع ورجال الأعمال. أما من نجحوا فيواصلون تعليمهم ويدرسون العلوم في العشر سنوات التالية، وفي سن الثلاثين يعقد امتحان جديد من ينجح يواصل تعليمه ومن يخفق ينتقل إلى الطبقة الوسطى، طبقة الجند حراس الدولة، ويتخصص الناجحون في دراسة الفلسفة ويتم تدريبهم على إدارة شؤون الحكم، وبعد دراسة الفلسفة خمس سنوات تنتهي الدراسة النظرية لتبدأ الدراسة العملية، فينزلون من علياء تأملاتهم إلى معارك الحياة اليومية لتكون لهم خبرة عملية في التعامل مع الناس. وبعد 15 عاما بين الناس يكونون قد بلغوا الخمسين من عمرهم، وأصبحوا قادرين على القيام بدور الملوك الفلاسفة، فلا يحكم المدينة الفاضلة غير الفيلسوف.
الفلاسفة هم الصفوة الذين أنجبتهم الدولة، وهم أعلى طبقة ويكون على الطبقات الأخرى طاعة حكمهم.
هذه هي خلاصة فكرته عن المدينة الفاضلة وحاول أفلاطون أن يقوم بتنفيذ هذه المدينة على أرض الواقع مستغلا إعجاب أحد الملوك به.
ذهب أفلاطون إلى الملك ديونيثيوس حاكم سرقوسه بعد أن تلقى دعوة منه، وعرض فيلسوفنا أفكاره لكنه فوجئ بالغضب الشديد للملك حتى كاد أن يقتله، لولا تدخل بعد الأصدقاء فاكتفى الحاكم بأن يبيعه في سوق العبيد. وبالفعل تم بيع أفلاطون، ولكن شاءت الظروف أن يكون الرجل الذي اشترى أفلاطون محبا للحكمة والعدل، فأطلق سراحه وسمح له بالعودة إلى أثينا، ليواصل محاوراته الفلسفية في حديقة أكاديميته حتى وفاته، ولم يعد بالتأكيد يعرض فكرة مدينته الفاضلة على أي من الحكام بعد ذلك. أصبح أفلاطون أكثر عقلا أو حكمة، فيما ظلت المدينة الفاضلة حلما بعيد المنال على هذه الأرض.
كاتب مصري