عمل الأديب الكبير نجيب محفوظ الحاصل على نوبل عام 1988 موظفا لمدة 37 عاما بداية من سنة 1934 إلى 1971، وقضى منها 17 عاما في وزارة الأوقاف بناء على نصيحة وزيرها وأستاذه الشيخ مصطفى عبدالرازق، علمته الوظيفة الصرامة والانضباط، كل شيء دقيق صارم، الكتابة لها ميعاد يومي، وكذلك لقاء الأصدقاء، وحتى شرب السجائر كان يشرب سيجارة كل ساعة بالضبط، والإجازة الصيفية 3 شهور يمتنع فيها عن الكتابة تماماً بسبب رمد كان يصيب عينيه صيفاً.
لم يلتفت محفوظ إلى عيوب الوظيفة في مجتمع يصفه بالبيروقراطي، القيمة الحقيقية فيه هي قيمة البيروقراطية والمكانة الوظيفية، فمنذ أيام الفراعنة، “الفرعون إله والموظفون أنبياؤه ورسله”. يقول محفوظ: نحن نتذكر خوفو ولا نعرف المهندس صاحب المعجزة في بناء الهرم، ما صرف النظر عن العقل والذوق والمهارات لصالح الوظيفة، وإن من علامات التخلف في المجتمع الإصرار على أن يلحق باسم الموظف لقب دكتور أو أستاذ، أو كاتب كبير، وكلها أشياء يجب ان نتخلص منها في المستقبل حتى يصبح الإنسان بحد ذاته أكبر من الوظيفة مهما كانت قيمتها، وحتى تصبح حياة المواطن العادي محترمة ولا تؤدي بصاحبها إلى فقدان احترام الآخرين لمجرد أنه فقد وظيفته، وكانت الوظيفة والحارة والمقهى مصادر رئيسية في أدب محفوظ. وتدرج محفوظ في العمل الوظيفي حتى أصبح رئيساً لمؤسسة السينما، وهي تساوي درجة نائب وزير، ثم أصبح مستشارا لوزير الثقافة ثروت عكاشة حتى خروجه على المعاش عام 1971 بعد حياة وظيفية حافلة كان يحصل خلالها على تقدير من مرؤوسيه بنسبة 100 %، إلا تقريرا وحيدا حصل فيه على 94 %. ولعل شهادة دكتور ثروت عكاشة في” مذكراته في السياسة والثقافة” تكشف عن شخصية نجيب محفوظ الموظف الذي يملك رؤية لكيفية التعامل مع المشاكل، يقول عكاشة: أشهد أن رفقة الأديب المحبب إلى القلوب نجيب محفوظ كانت رفقة ممتعة مثمرة، فما أكثر ما زودني بالنصح الرشيد السديد في واقعية مترعة بالإنسانية الرهيفة وحكمته البالغة وإدراكه العميق للمشاكل، ما خفف عني الكثير من أعباء تلك الفترة المضنية. المدهش في نجيب محفوظ قدرته على أن يشق طريقه في نهر الإبداع دون الالتفات إلى أية أحجار تعوق مجراه، وأحيانا يستفيد من هذه الأحجار ويدفعها يمينا أو يسارا فيتدفق الإبداع بشكل أكثر قوة وتلك كانت عبقريته.
*كاتب مصري