كان توفيق الحكيم يحمل الكثير من المشاعر المتناقضة تجاه والدته، وكانت شخصية قوية لا يقف أمام إرادتها أحد، إذا طلبت شيئا وصممت عليه فلابد أن تناله، ولديها القدرة على إخضاع الجميع لإرادتها، كان هذا شأنها مع أمها وزوج أمها وأولاده ثم زوجها فيما بعد، لم تقف أمامها إلا أختها ولذلك خاصمتها تماما، لكن هذه السيدة كما يذكر الحكيم كان لها الفضل في تكوين خياله المبدع، فهو كان يجلس إلى جوارها وهي تصنع القهوة، تحكي له الحكايات التي أثرت خياله، كما كانت تقرأ له قصص ألف ليلة وليلة وحمزة البهلوان وعنترة وسيف بن ذي يزن، تجيد سرد القصص وتصور الأحداث بطريقة تستولي على الأذان فتصغي بحب، حتى أن والده المستشار إسماعيل الحكيم كان ينضم أحيانا إلى هذه الجلسات بعد أن ينتهي من دراسة قضاياه.
قوة شخصية الأم ربما كانت العامل الأهم الذي جذب الحكيم إلى حكايتها وعالمها المثير، لكنه عانى منها كثيرا أيضا، فعندما رسب في السنة الأولى بالثانوية العامة بسبب كثرة ذهابه إلى السينما رفضت أمه أن تفتح له باب البيت.. وجاء الأب وغضب بشدة أيضا وأقسم أن يظل مطرودا من المنزل، وظل الحكيم على قارعة الطريق لا يعرف ماذا يفعل، ومن يومها أقسم ألا يدخل السينما إلا بعد البكالوريا.
بالفعل عندما التحق الحكيم بكلية الحقوق في القاهرة، أبر بقسمه ولم يذهب إلى السينما، لكنه توجه إلى المسرح بكل ما يسمح وقته وجيبه أيضا! فنان لم يدرك الأهل أنهم عندما أرسلوه إلى القاهرة فإنهم أرسلوه إلى بحر الحرية الواسع، لكن ما باليد حيلة.
وكما رسب فى السنة الأولى بالثانوية العامة بسبب السينما رسب في السنة الأولى بكلية الحقوق بسبب المسرح، ورغم ذلك استطاع الحصول على ليسانس الحقوق، جاء ترتيبه قبل الأخير باسمين، وشكر الحكيم ربه أن وجد اثنين أسوا منه.
بعد الليسانس حدث الصدام بينه وبين أبويه، هما يريدان أن يعمل بالمحاماة، وهو يريد أن يعمل بالأدب، فالأم التي منحته الخيال وحب الأدب تقف في صف أبيه بكل إرادتها حتى لا يشتغل بالأدب.
وفي ذات يوم واجهه أبوه بأمر المستقبل وقال له: إن التحاقه بالنيابة أصبح متعذرا لأنه ليس من الأوائل، ولا مفر من الاشتغال بالمحاماة، وعندما لاحظ عدم تحمس الحكيم، قال له: أنت غرضك أن تشتغل بالتشخيص.
قال الحكيم: أنا أحب الأدب وأريد الاشتغال به. قال الأب: تريد أن تفعل كما فعل لطفي. قال الحكيم: "لطفي مين". قال: لطفي السيد كان زميلنا في القضاء، فجعل يقول الأدب إلى أن ترك القضاء واشتغل "جورنالجي" ثم وضعوه في مخزن اسمه دار الكتب.
وشاء القدر الساخر أن يترك الحكيم الوظيفة بعد وفاة أبيه وأن يعمل بالصحافة ثم يعين بعدها في نفس المخزن الرسمي.. رئيسا لدار الكتب. دنيا.
كاتب مصري