العدد 4262
الإثنين 15 يونيو 2020
banner
في أعقاب “الكورونا”... النظام الرأسمالي: ما له وما عليه
الإثنين 15 يونيو 2020

تواجه الرأسمالية باعتبارها نظاما اقتصاديا حرا، انتقادات واسعة منذ نشوئها في المجتمع الصناعي المتقدم حتى يومنا هذا. كما تواجه وليدتها (العولمة) والنيوليبرالية، المصير نفسه.

وقد تعالت أصوات النقاد ونذرهم في هذه الأيام مع تفشي وباء جائحة الكورونا وهم يتنبأون بأن الوقت قد حان لنظام عالمي جديد تخضع فيه الأنشطة والأنظمة الرأسمالية وحرية السوق المطلقة، لقيود تفرض عليها مراعاة العوامل الإنسانية في أنشطة الاقتصاد التوسعي غير المنضبط والعابر للقارات، ومراعاة عوامل أخرى اجتماعية وبيئية وخدمية في مجال الصحة والدواء ومكافحة الأوبئة والاحتياط للكوارث الطبيعية وتوفير الموارد المالية اللازمة لمواجهة تلك الاحتياجات وغيرها، وذلك بدلا من إنفاق الأموال في شن الحروب.

وبالإضافة إلى كل ذلك فهناك الكثير ممن يطالب بإحداث التغيير في مواقف الدول تجاه تشجيع مؤسسات المجتمع المدني ومشاركتها في القرار، بما في ذلك نقابات العمال وأصحاب المهن الحرة وجمعيات حقوق الإنسان وجمعيات أنصار البيئة وغيرها.

كما تجدر الإشارة أيضا إلى المفاوضات الجماعية بين دول الجنوب والشمال ومعسكر العالم الثالث والعالم المتقدم الذي ما زال يمسك بيده مفاتيح التقدم والتنمية في دول وشعوب العالم الثالث، ثم يبخل على تلك الدول في مجال تنميتها اللهم إلا بالشروط الإذعانية والمذلة.

ولابد من الإشارة أيضا إلى أن الأنظمة الرأسمالية في مسيرتها الحالية تستفيد منها القوى العظمى ذات الاستعمار العريق على حساب الدول النامية، ولكن يبدو أن هناك يقظة جديدة لدى الدول التي عانت من الاستعمار كثيرا للمطالبة بحقوقها في التعويض العادل من تلك الدول المستعمرة.

ومنذ أيام قليلة أقر البرلمان في تونس اقتراحا بمطالبة فرنسا بالتعويض العادل خلال ثمانين عاما من تاريخ الاستعمار الفرنسي لتونس.

ويبدو أن من طبيعة النظام الرأسمالي أنه يتمتع بالمرونة والقدرة على التلون

تلون الحرباء والخروج من باب ثم الدخول من باب آخر لتحقيق الأهداف نفسها.

فالهجمة الاستعمارية الشرسة وقهر الشعوب واستغلال ثرواتها سرعان ما تحولت بعد استنفاد مبرراتها حينما نالت الشعوب استقلالها بعد كفاح مرير.. سرعان ما تحولت إلى استعمار اقتصادي فرض هيمنته على مقدرات تلك الشعوب بعد استقلالها، فأحكمت سيطرتها على الاقتصاد ومجالات التنمية، وفي السياسة عن طريق التدخل في سياسة الدول المستقلة كما حدث في مصر وسوريا والعراق وغيرها من دول العالم مثل أميركا اللاتينية ودول إفريقيا واسيا، والإطاحة بالأنظمة التي لا تذعن لتبعية الدول المستعمرة.

وحين تشعر تلك الدول بوجود أخطار محتملة على مصالحها فهي لا تتورع عن استعمال القوة القاهرة والغزو المسلح وإثارة الفوضى المدمرة في تلك المجتمعات بالإضافة إلى سلاح المقاطعة الاقتصادية وتجويع الشعوب.. وكل ذلك حاصل اليوم ولا يحتاج إلى إثبات.

ومن الوسائل الأخرى المرنة التي لجأت إليها دول الاستعمار القديم استغلال مجال التنمية في إغراق الدول الناهضة بالمستشارين والفنيين من ذوي الرواتب الباهظة، فتراهم يتغلغلون في أجهزة الدول التي تستعين بهم في مجال التكنولوجيا المتقدمة ومجال التنمية المستدامة، ويستلون أسرار تلك الدول في المراكز الحساسة كالأمن وتزويد السلاح والخدمات والصناعة والمجالات الأخرى بما في ذلك ما يتعلق بالتيارات السياسية ومراقبتها؛ ليعرفوا مصادر الضعف والقوة في أجهزة الدول للاستفادة من كل تلك المصادر والمعلومات عند اللزوم.

تحضرني في هذا المجال ملاحظات قيمة أدلت بها شخصية مصرية محترمة ومرموقة.

وأعني بذلك الدكتور محمود فوزي المستشار برئاسة الجمهورية المصرية في عهد الرئيس السادات. فقد زرته لتوديعه في أواخر العام 1974 في مكتبه بديوان رئاسة الجمهورية، وحدثني بلهجة يبدو عليها التململ من ظاهرة انتشار الخبراء والمستشارين والفنيين الأميركيين والأجانب في أجهزة مصر الرسمية لاسيما العسكرية منها؛ بغرض التطوير والتدريب وتقديم المشورات الفنية وغيرها..

ومن جملة ما شرحه لي قوله بما معناه “إن تغلغل الخبراء والمستشارين في أجهزة أي دولة هو الصورة الجديدة للاستعمار الحديث. فقد انتهى عهد الاستعمار عن طريق الاحتلال المباشر للدول. كما أوشك عصر الاستعمار الاقتصادي على الانتهاء، واليوم فهؤلاء من الفنيين والخبراء الأجانب أصبح بإمكانهم الاطلاع على أسرار الدولة والسيطرة على أجهزتها وأنواع التسليح في جيشها وأنشطة المخابرات فيها ومعرفة مواطن القوة والضعف في كل ذلك”.

وأضاف أنه نقل وجهة نظره إلى السادات مقترحا فتح المجال للأدمغة المصرية لاسيما المهاجرة منها وتشجيعها على الرجوع إلى مصر بكل الوسائل المغرية لتسلم تلك المناصب، وكذلك الاهتمام بشباب مصر المتعلم وتشجيعهم للتخصص في تلك المجالات، (انتهى).

وعودة إلى الموضوع أقول إن النظام الرأسمالي ليس شرا كله. فقد تحققت عن طريقه نهضة الأمم الصناعية وحرية التجارة في العالم، كما استفادت منه الدول الأخرى، وأدت المنافسة الحرة إلى تحسين الإنتاج وتخفيض أسعار السلع وفتح المجال على مصراعيه للإبداع والابتكار وضمان حقوق المخترعين والأفراد وتوثيقها رسميا وحقوق التملك بأنواعها، ومكافأة الفنيين والمبدعين والمخترعين ماديا ومعنويا بما تم رصده من جوائز ومكافآت ووسائل الإعلان والترويج ولو كان كل ذلك على حساب المستهلك وإغراءات صرف ما في جيبه على السلع الاستهلاكية والكمالية.

وبعد انهيار النظام الشيوعي الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي لم يتبق غير النظام الرأسمالي لسيادة العالم كأمر واقع، باستثناء بعض الدول القليلة التي مازالت تتمسك بالنظام الاشتراكي ظاهرا وتدير دفتها بنحو أو بآخر تجاه الاستفادة من مميزات النظام الرأسمالي باطنا. ومن بينها العملاق الصيني، وكوريا الشمالية، وبعض الدول الأخرى التي تدور في الفلك يمينا أو شمالا.

في عصر الرئيس السادات كانت الاشتراكية في مصر تترنح في أواخر أيامها بعد قرار السادات بالانفتاح على الاستثمارات الرأسمالية والشركات الأجنبية وتخصيص شركات القطاع العام.. وفي ذلك إحراج لدعاة الاشتراكية، وكان موقفه التمسك ظاهريا وكلاميا بالاشتراكية الموروثة من عهد الرئيس جمال عبدالناصر، بينما هو يمضي في الطريق الآخر. فجاءت هذه النكتة على لسان المصريين:

قالوا إن سيارة الرئيس وقفت عند مفترق الطرق وسأله السائق كيف يدور فأجاب: حرك الإشارة على اليسار لكن توجه بالسيارة إلى اليمين.

وعودة إلى الموضوع... لعل من المفيد هنا أن نقف برهة وجيزة عند تعريف النظام الرأسمالي وما له من ميزات وما عليه من مآخذ:

تتعدد التعريفات لماهية النظام الرأسمالي، ومعظمها يتفق على أن الرأسمالية هي نظام اقتصادي تكون فيه رؤوس الأموال والأرباح مملوكة لأصحاب الأموال دون غيرهم من العمال الكادحين. وأنها نظام اقتصادي تعود فيه ملكية وسائل الإنتاج لأصحاب رأس المال يتم استعمالها بقصد جني الأرباح لصالح من يملكون المال. وأنها نظام اقتصادي يستند إلى حرية السوق لتنمية الثروات الخاصة بالملكية الفردية والمحافظة عليها دون تدخل الدولة اللهم إلا في حدود الرقابة وضمن حدود السوق الحر.

وقد عددوا للنظام الرأسمالي الحر إيجابيات إضافة إلى ما تم ذكره أهمها:

1. المنافسة الحرة تؤدي إلى جودة الإنتاج والابتكار.

2. تطوير القدرات العلمية يدفع بعجلة التطور والتقدم.

3. تشجيع روح المبادرة.

4. ارتفاع الدخل القومي.

وفي مقابل كل ذلك تتعدد المآخذ على النظام الرأسمالي الحر ومن بينها:

1. ظهور الطبقية واستغلال العمال بسبب مبدأ الأسعار الحرة التي يعتمد عليها النظام ويسعى فيها نحو اختيار أقل الأجور للفئة العاملة.

2. تركز الثروة في أيدٍ قليلة من المجتمع.

3. الاهتمام بالماديات وتحقيق الأرباح على حساب القيم الإنسانية وعدالة توزيع الثروة.

4. حدوث أزمات اقتصادية حادة وتزايد حجم البطالة.

5. تقييد الحكومات والسياسات أمام الكيانات الاقتصادية الرأسمالية الضخمة، والتأثير على القرار السياسي والتحكم فيه، ما يؤدي إلى انحياز السياسة لطبقة بعينها، وهو ما ينتج عنه ضعف الخدمات العامة خصوصا في الدول النامية. وفي الدول المتقدمة يضرب التدخل السياسي مسمارا في نعش الديمقراطية بسبب شراء الأصوات، وتوجيه دفة القرارات السياسية للصالح الخاص بدلا من الصالح العام.

والخلاصة: فإذا كان النظام العالمي سوف يخضع في أعقاب جائحة الكورونا للتغيير فأولى أن يطال التغيير مسيرة النظام الرأسمالي لتحقيق التوازن بين حرية السوق ومصلحة المجتمع والأيدي العاملة طبقا للقيم الإنسانية والأخلاقية بعيدا عن نزعة التسلط أو استغلال الدول الضعيفة وأسواقها ومواردها الطبيعية. وبالاختصار تلافي العيوب والسلبيات في النظام الرأسمالي القائم.

وعسى ألا يخيب أمل الشعوب في العدل والإنصاف وألا تصبح النتائج مخيبة للآمال كما قال الشاعر: “لَقَد مَرَيتُكُمُ لَو أَنَّ دِرَّتَكُم، يَومًا يَجيءُ بِها مَسحي وَإِبساسي”.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية