+A
A-

كيف تتحول دبي رويداً رويداً إلى مركز عالمي للخدمات المالية

بدأت دبي رحلتها في التاريخ كقرية صغيرة يزاول سكانها أنشطة الصيد والرعي بشكل رئيسي منذ القرن الثامن عشر. ولكن خلال العقدين الماضيين حققت الإمارة الخليجية طفرة غير مسبوقة على كافة الأصعدة حتى أضحت حالياً واحدة من المراكز الحضارية التي يشار إليها بالبنان في كافة أنحاء العالم.

برزت دبي كمركز عالمي لصناعة الخدمات المالية واللوجستية والضيافة والتجارة والاستثمار، كما تشهد قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية والتكنولوجيا والطاقة النظيفة نمواً مستداماً خلال الآونة الأخيرة. خصصت الدولة أيضاً أمولاً وبيئة جاذبة للشركات الناشئة والتي نجحت في اجتذاب رواد الأعمال من مختلف الجنسيات. ونجحت هذه السياسة في تحقيق طفرة في عدد المشروعات الجديدة والتي ساهمت بدورها في تدفق الشركات الناشئة العاملة في قطاع التكنولوجيا بعد أن وجدت بيئة أقرب إلى وادي السيلكون في الولايات المتحدة.

من الأمور الملفتة للانتباه هو أن دخل دبي من النفط لا يتجاوز 6% من إيراداتها السنوية، وهي معلومة ربما تبدو غائبة بالنسبة لكثيرين ممن يعتقدون أن كافة البلدان الخليجية قد بنت ثرواتها من النفط.

استفادت دبي من موقعها الاستراتيجي كمدينة تقع على مفترق الطرق بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبفضل نجاح خطط التنمية التي قادها حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد أل مكتوم، بات مطار دبي واحداً من أكثر المطارات ازدحاماً في العالم. وتضم دبي أيضاً أكبر ميناء تجاري (جبل علي) وأطول ناطحات سحاب في عالم (برج خليفة).

وساهم قلة اعتماد دبي على النفط في احتفاظ الإمارة بازدهارها خلال السنوات الخمسة الأخيرة في الوقت الذي عانى فيه جيرانها من انخفاض أسعار النفط. وتعزى القوة الاقتصادية للإمارة إلى قرار الحكومة منذ أواخر الستينيات بتنويع اقتصادها والاستثمار بكثافة في إنشاء بنية تحتية متطورة وتوفير مناخ تشريعي جاذب للاستثمارات في مجالات عدة، يأتي على رأسها السياحة والخدمات المالية والعقارات.

أنشأت حكومة دبي أيضاً العديد من المناطق الحرة لأغراض متنوعة، تشمل من بينها المنطقة الحرة لجبل علي والمخصصة للأنشطة التجارية. في ذات السياق، يعتبر مركز دبي المالي العالمي واحداً من أكبر مراكز الخدمات المالية والتي تنافس حالياً لاعبين كبار في هذه الصناعة المتطورة مثل سنغافورة ولندن ونيويورك.

استقطبت دبي خلال النصف الأول من العام الماضي 257 مشروعاً تنوعت بين الاستثمار في الخدمات المالية والمشاريع البيئية، وحتى برغم الصعوبات التي يواجهها السوق العقارية بدبي في الوقت الحالي إلا أنه نال نصيبه من الاستثمار الأجنبي المباشر، والذي سجل رقماً قياسياً خلال هذه الفترة ليصل إلى 46 مليار دولار.

قصة نجاح مركز دبي المالي العالمي

كما ذكرنا آنفاً، فإن النموذج الحضاري الذي اختارته دبي كان متوافقاً مع ظروفها الجغرافية والديموغرافية من حيث كونها نقطة التقاء لثلاثة قارات كبرى، في الوقت الذي تتمتع فيه بندرة الموارد الطبيعية وصغر عدد السكان. وبطبيعة الحال، فإن هذا الإطار الديموغرافي دفع حكومة دبي إلى التركيز على قطاع الخدمات كمحرك رئيسي للنمو والازدهار، وذلك بخلاف نماذج التنمية الأخرى التي تعتمد على الصناعات الثقيلة مثل تجارب الصين والهند وغيرها.

تأسس مركز دبي المالي العالمي في عام 2002 لسد الثغرة الزمنية بين كبرى المراكز المالية في العالم مثل لندن ونيويورك في الغرب، وهونج كونج وطوكيو في الشرق، وبغرض توفير إطار تشريعي ومنطقة حرة لعمل الشركات العالمية بعيداً عن القيود التنظيمية التي يتطلبها العمل في الدول الخليجية بشكل عام.

ولم تقتصر جهود مركز دبي العالمي على تخفيف قيود الملكية الأجنبية للشركات المحلية، بل شملت أيضاً إنشاء سلطة تنظيمية من طراز عالمي، هي سلطة دبي للخدمات المالية. وسن مركز دبي العالمي أيضاً قوانين متطورة لتعزيز المنافسة وخلق مناخ جاذب للاستثمار في مجال الخدمات المالية، مثل قانون الإفلاس.

وساهمت هذه الجهود في زيادة عدد الشركات العاملة داخل مركز دبي العالمي لأكثر 2,400 شركة، فيما تجاوز عدد موظفيها المسجلين أكثر من 25 ألف. واستفادت شركات الوساطة من تحرير الأسواق المالية في دبي، حيث شهدنا قيام العديد من وسطاء الفوركس إما بالحصول على رخصة المكتب التمثيلي أو حتى إطلاق شركات مقرها الرئيسي في دبي أو احدى الإمارات الأخرى. وستساهم هذه التطورات في إفساح المجال أمام متداولي الفوركس في المنطقة للاستفادة من تقديم منتجات تلبي المتطلبات المحلية، والتمتع في نفس الوقت بحماية تنظيمية قوية على غرار تلك التي توفرها الهيئات الرقابية المرموقة مثل FCA البريطانية وNFA الأمريكية.

وبطبيعة الحال، سيساعد هذا المناخ في تقليل حالات الغش والاحتيال التي يتعرض لها العديد من متداولي الفوركس جراء الوقوع في فخ المنصات الاحتيالية التي استفادت لفترة طويلة من عدم وجود شركات محلية تقدم خدمات مشابهة. لا ننسى أيضاً أن انتشار الوعي الاستثماري سيساعد على حماية المستثمرين الأفراد، وهو الأمر الذي ستدعمه جهود الشركات المحلية والتي ستضع في اعتبارها تثقيف الجمهور المستهدف في إطار الترويج لخدماتها في المنطقة. وشهدنا بالفعل ثمار لهذه البيئة الجديدة حيث قامت العديد من شركات الوساطة المحلية بتطوير منصات وتطبيقات الفوركس اعتماداً على جهود المطورين المحليين والكفاءات التقنية العاملة في دبي.

نعتقد أننا بصدد مشهد جديد لصناعة الخدمات المالية في المنطقة لتتجاوز فكرة التركيز على أسواق الأصول التقليدية مثل الأسهم والعقارات وما إلى ذلك. نعتقد أيضاً أن هذه المستجدات ستحمل فائدة مزدوجة لكلاً من شركات الوساطة والمستثمرين المحليين على حد سواء، حيث ستسعى الأولى إلى تقديم منتجات متوافقة مع متطلبات البيئة العربية (مثل تقديم منتجات تداول تتوافق مع الشريعة الإسلامية). على الجانب الآخر، سيستفيد المتداولون العرب من ميزة التعامل مع شركات وساطة ذات تواجد فعلي على الأرض يمكن زيارتها على الأرض وتقييم كفاءة خدماتها، وفي نفس الوقت البقاء تحت مظلة الحماية التنظيمية والرقابية التي توفرها السلطات المحلية.