+A
A-

"نقصة الشهر الفضيل" عادة اجتماعية بروح معاصرة

منذ‭ ‬أن‭ ‬كنا‭ ‬صغارًا،‭ ‬كنا‭ ‬نعيش‭ ‬لحظات‭ ‬جميلة‭ ‬حينما‭ ‬ترسلنا‭ ‬أمهاتنا‭ ‬قبل‭ ‬وخلال‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬المبارك،‭ ‬إلى‭ ‬بيوت‭ ‬جيراننا‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬صديقة‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬الوالدة‭ ‬أو‭ ‬لإحدى‭ ‬قريباتها،‭ ‬ونحن‭ ‬نحمل‭ ‬في‭ ‬أيدينا‭ "‬النقصة‭ ‬أو‭ ‬النغصة‭"‬،‭ ‬وهي‭ ‬باختصار‭ ‬إهداء‭ ‬يتشارك‭ ‬فيه‭ ‬الأحبة‭ ‬خلال‭ ‬الشهر‭ ‬الفضيل،‭ ‬وغالبًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬أطباقا‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬قبيل‭ ‬وقت‭ ‬الإفطار‭ ‬أو‭ ‬السحور،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬العادات‭ ‬التراثية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الخليجي‭ ‬منذ‭ ‬القدم،‭ ‬وأصل‭ ‬الكلمة‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الاستنقاص،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬يستنقصه‭ ‬الشخص‭ ‬المهدي‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬ليهديه‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يحب،‭ ‬ولهذه‭ ‬العادة‭ ‬أثرها‭ ‬الطيب‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬من‭ ‬مودة‭ ‬ومحبة‭ ‬وتواصل‭ ‬كريم‭ ‬يبهج‭ ‬القلوب‭.‬

 

"النقصة" ارتبطت بشهر رمضان كعادة جميلة من عادات الماضي كما تقول الباحثة الكويتية نجاة الحشاش، فالجدات والأمهات عندما كن يعددن وجبة الفطور لعائلاتهن، كانت ربة الأسرة تقوم باستنقاص جزء من هذه الوجبة أو عمل وجبة أكبر من أجل إرسال طبق من فطورها إلى منزل جارتها، وتقول "هذا الصحن نقصة لبيت أم فلان"، وكانت عملية تبادل أطباق الفطور بين الجيران تبدأ قبل الإفطار بنصف ساعة، وعند موعد الإفطار نجد السفرة تحتوي على أطباق متنوعة من نقصة الجارات والأهل.

 

 

 

مصممة‭ ‬التراث

صالحة‭ ‬حمد‭ ‬الرميثي

 

 

خلال السنوات الماضية، اختلفت نقصة الأمس عن نقصة اليوم، فأصبحت تهدى بأفخر ما يرغب فيه المتهادون بتصاميم راقية، وبعضها مكلف لا سيما حينما تحوي هدايا ثمينة كالأواني الفضية أو البخور والعود غالي الثمن، وبعضها بسيط في متناول الجميع لكن يقدمونها بشكل جميل مع عبارات التهنئة بالشكر الفضيل، وهذا ما تقوله مصممة التراث صالحة حمد الرميثي التي تشير إلى المثل الشعبي القديم: "أنا غنية وأحب الهدية"، فنقصة شهر رمضان المبارك لها الكثير من المعاني الجميلة التي ما تزال تحافظ عليها وإن اختلف أسلوب تقديمها وتواكب مع العصر، وأقول إن الناس يحبون التصاميم التراثية حتى نجد الكثير وقد استعدوا للشهر الفضيل بالديكور التراثي القديم والهدايا المرتبطة بأجواء رمضان منذ القدم.

 

 

 

وفق تقديرها، تشير صالحة إلى أن البعض يفضلون، كما يفعل الأولون، أن يهدوا النقصة إلى الفقراء والمحتاجين من أهل الحي، وأنا أتذكر من صغري أن جدتي (رحمها الله) كانت تضع الزيت والأرز وبعض الأطعمة وتقول "هذه نقصة لبيت فلان وهذه لبيت أم فلان"، وعادة ما تتكون من الحاجات التي يستخدمها الناس طوال الشهر كطحين الكباب المميز المصنوع في المنزل أو الحبوب أو الزيوت الطيبة أو بهار يضعونه في أكياس صغيرة، وهذه العادة مستمرة، فنحن نتهادى مع الأهل والصديقات وقد نشتري شيئًا لأنفسنا ونشتري مثله لقريبة أو صديقة أو إنسانة عزيزة على قلوبنا، والناس تفرح وتستبشر بها في الشهر الفضيل.

 

 

المشاعر فرحة ولها رونقها في الأجواء الرمضانية، واليوم ما تزال قائمة حتى في سائر أيام السنة، ولأن لشهر رمضان خصوصيته وروحانيته، فمن أجمل المعاني أن تستمر هذه العادة حتى لو تطورت في تصاميمها ونماذجها مع تطور العصر.

 

 

 

 

الباحث‭ ‬الاجتماعي

محمد‭ ‬جواد

 

ويعرف الباحث الاجتماعي محمد جواد مرهون النقصة أو النغصة، وهي أن تحب شيئًا ما وتذكر حينها شخصًا تحبه وتتمنى أن يشاركك في هذا الشيء، وجرى العرف أن تكون هذه النقصة وجبة مميزة تستلذها أو سلعة بمواصفات راقية كنت تبحث عنها حتى حصلت عليها وتذكر حينها ذلك الشخص الذي خطر ببالك، وحينها تتنغص عليه وتشتري له مثلها، فهذه ليست مناسبة عيد ميلاد مثلًا حتى تكون مخططا لها إنما وليدة اللحظة، وفرحتك بما وجدت من شيء محبب والخاطر الذي استحوذ عليك وذكرك بالشخص الذي استهواك إهداءه أو تتمنى أن يشاركك الفرحة به يعكس حبًا عفويًا صادقًا، وقد تكون هذه النغصة بداية تعارف مع جار أو للتعبير عن تصحيح خطأ ما أو تعزيز أواصر المحبة أو صلة رحم أو عرفان بجميل.

 

ويضيف "إنها خاطرة استحوذت على تفكيرك وسببت لك النغصة التي أشارت عليك إلى من تتنغص عليه، وبالمقابل كانت الرغبة لديك مدفونة أو مؤجلة فيبرزها الموقف فرحة ونقصة واستجابة، وفي العادة حين تسليم هذه النغصة تسبقها ابتسامة عريضة، والابتسامة في وجه أخيك المؤمن صدقة، وتصحبها كلمة طيبة، والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها حين بإذن ربها".

 

 

وهل هناك أحلى من عبارة "تنغصت عليك"؟ فمدلولها كبير وأثرها عميق فهي تدعو للمحبة وتآلف القلوب وتميز المهدى إليه عن الآخرين إثرة ومحبة واهتمامًا، وكم من عادات جميلة في مجتمعنا يجب المحافظة عليها واستذكارها ولفها أحيانًا بروح العصر حتى تنسجم مع مستجدات الحياة دون أن تفقد أصالتها وتحفظ معناها ويستبقى بريقه، وتبرز هذه النقصة بشكل جلي في شهر رمضان المبارك، فتنشر المحبة بين الناس وتفتح الأبواب المغلقة وتشرح الصدور المكتئبة وتلغي الحواجز والصدود وتبشر بالتراحم والتوادد وتعيد التلاقي والتواصل بين المجتمع بجميع أطيافه.