+A
A-

عمار الخزنة: الوباء منطقة توهج وإبداع للروائيين

مهاجرٌ في زمن الجُدري” تستحضر معاناة الأجداد وتصف المستقبل

الأوبئة السابقة تحكمت بالبشر بينما نحن من يكبح جماح “كوفيد 19”

ستكون لدينا حكايا للأجيال لكن ماذا نخبرهم عن فشلنا أو انتصارنا

 

‏مصطلحات كثيرة صارت تطرق مسامعنا كل يوم عن وباء ڤيروس كورونا المستجد “كوفيد 19” الذي هز العالم. ولكي نستوضح عن هذه المتغيرات المرتبطة بهذا الوباء ولتسليط الضوء ‏على العلاقة بين السرد والفنون والوباء، التقت “البلاد” ‏استشاري الأمراض الباطنية والأمراض التنفسية والعناية القصوى وأمراض النوم، عمار الخزنة وهو الطبيب البحريني المقيم في ولاية كانساس بالولايات المتحدة الأميركية وكاتب رواية (مهاجرٌ في زمن الجدري).

أعلنت مؤخرا منظمةُ الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة أن وباء كورونا المستجد أصبح جائحةً عالمية، فما هو الفرق بين الوباء والجائحة؟

سؤال رائع... الأوبئة المعدية تُصنف من قبل منظمة الصحة العالمية بناءً على أمرين أساسيين: المساحة الجغرافية للمرض، والأمر الآخر سرعة انتشاره. مثلا لو افترضنا أن هناك حالات لعدوى بالعشرات أو المئات في مدينة معينة، فهذا يطلق عليه مصطلح فاشية Outbreak وتكون نسبياً محدودةً في آثارها وهي المرحلة الأولى..

ثم لو افترضنا أن هذا المرض انتقل بسرعة لأشخاص بالمئات والآلاف ودخل عدة مدن أو دول، فهذا هو المستوى الثاني ويطلق عليه وباء Epidemic.. ولكن لو أن هذا الوباء انتقل بين عدة دول وصار خطرا يهدد الصحة العالمية، فهنا يطلق عليه اسم جائحة عالمية Pandemic وهي أعلى مستويات الوباء من حيث الخطورة المحتملة والانتشار.

هل وصول كورونا المستجد إلى مرحلة الجائحة يعني أن الفيروس أصبح أكثر خطورة؟

وصول الڤيروس لمرحلة الجائحة لا يعني بالضرورة أن الڤيروس أصبح أكثر فتكاً من قبل. فما تزال نسبة الوفيات حوالي 2 % من المصابين، ولكن دخوله مرحلة الجائحة يعني أن انتشار الڤيروس تجاوز من كونه وباء مستوطنا Endemic أو محدودا وتحول إلى وباء عابر للقارات مما يجعله تهديدا عالميا في حالة عدم السيطرة عليه.

‏ ألا تدعو هذه الجائحة للخوف والهلع؟

‏لا أتفق معك. الهدف هو التعامل بعقلانيه ومنطق. نعم لاستشعار المسؤولية الذي سيدفع الناس للالتزام بإرشادات أهل الاختصاص. ولكن لا للهلع الذي يشكل حالة مرضية في حد ذاته. واقعاً، أنا دائماً أحاول التفريق بين التثقيف الصحي وبين ما أسميه “التخويف الصحي”. فمن يُقدم المعلومات الطبية يتحمل مسؤولية صحة المعلومات، وأيضا الآثار المترتبة عليها في المجتمع. ولذلك علينا ‏انتقاء كلماتنا بدقة.. نعم، هي مسؤولية مجتمعية مشتركة بين الأفراد، بل بين كل البشر، فكلنا في مركب واحد.

برأيك من يلعب الدور الأهم في هذه المرحلة: المنظمات العالمية أم الحكومات، أم مؤسسات المجتمع المدني أم الأفراد؟

لعلي لا أذيع سرًّا إذا قلت أن كل المنظمات الدولية والأهلية لها دور مهم جدا، لكن الدور الأكبر و الأهم هو دور الأفراد.. و نجاح أي خطة لمكافحة الوباء يعود في النهاية لمدى التزام الأفراد بأدوارهم، مثل ممارسة التباعد الاجتماعي والمداومة على غسل اليدين وتجنب مخالطة المصابين.. ولن تنجح أي دولة مهما كانت إمكانياتها في أداء المهمة بدون تعاون من الأفراد. ‏ولعل خير مثال يبعث على الأمل هو قضاء البشرية على وباء الجدري تماما، على الرغم من كونه تسبب بوفاة حوالي 300 مليون شخص تقريباً.

ففي سنة 1967 عملت الدول مع الأمم متحدة وجُنِّدتْ رؤوس الأموال والخبرات ليُقضى على الجدري عالميا رسميا سنة 1980 في إنجازٍ تاريخي غير مسبوق. ليؤكد حقيقة أن البشرية قادرة على ‏قهر الوباء بشرط أن تتوافر الإرادة الإنسانية والسياسية لذلك. وعليه فإنني أرى أن المعونات الطبية لمجابهة هذه الجائحة يجب أن تصل لكل دولة في العالم بغض النظر عن نظامها الحاكم، وهي مسؤولية إنسانية وأخلاقية تعود مصلحتها على العالم ككل. كما أن التقصير والتساهل ستكون عواقبه وخيمة على الجميع.

‏إشارتك للجُدري تحيلني إلى المحور الثاني في حوارنا، لديك تجربة روائية بعنوان “مهاجرٌ في زمن الجدري” وسأنقل منها هذا الاقتباس “لم يَعرف أحدٌ من أين جاء الوباء، لكنَّ الجميع يعلم أنه استقر في البلد ضيفاً ثقيلاً.. كان ينتقي ضحاياه من بيوتٍ شتى، لكنه كان عادلاً، لا يفرق بينهم.. دخل الهلعُ كلَّ بيت واستوطن الخوفُ قلوبَ الأمهات”.

كأنّ الرواية تستقرئ المستقبل وتصف حالنا اليوم مع أن الرواية كُتبتْ عن زمان مضى. ما تعليقك؟

‏الأدب السردي برأيي يُعنى بالمعاناة الإنسانية عبر العصور لذلك نجد علاقة وثيقة بين الآداب ومعاناة البشر مع الأوبئة عبر الأزمان. تجربتي في رواية مهاجرٌ في زمن الجُدري تحاول استحضار معاناة الأجداد مع الجدري الذي كان يقتل ملايين البشر. والوباء عموما مادة خصبة للكتابة الإبداعية عموما والسردية خصوصا. وأزعم أن سبب ذلك ليس فقط فداحة الفقد وحجم الألم، بل أيضا ‏يعود إلى قدرة الكاتب على استدراج المتلقي ليكون جزءًا من التجربة، فيشعر بالتعاطف والهلع مع الشخوص ويتحسس لوعة الوجع الإنساني والخوف من العدو اللامرئي المتمثل في الجدري.

الكتابة عن وباء لم نعاصره عملية محفوفة بالتحديات التي حاولت مقاربتها تاريخياً وطبياً بالرجوع إلى التاريخ الشفاهي وعدد من المصادر العربية والأجنبية. كلها كونت حصيلةً علمية شكلت لبِنات النص الروائي. وآمل أن النص خرج بتوليفة سردية تحاول الموازنة بين الدقة العلمية والكتابة الإبداعية القابلة للإمتاع.

حدثني أكثر عن ثنائية الوباء والأدب؟

‏هذه لفتة رائعة. الأدب والفنون دائما تسابق العلم الطب، وكثيراً ما يستشرف الأدبُ المستقبلَ قبل أن يأتي به العلم على أرض الواقع. ولكن يظل الوباء منطقة توهج وإبداع على مدى العصور. خذ مثلا رواية غابرييل ماركيز (الحب في زمن الكوليرا) ورواية (الطاعون) لكامو، و(الحرافيش) لمحفوظ، و(براري الحمى) لنصر الله. سنجد أن الجامع بينها هو تحبيك الوباء في نسيج الرواية بحيث يصبح جزءا عضويًا في النص يستميل القارئ ويورطه ‏أكثر مع الأحداث والشخوص.

‏لديك اهتمام بالتاريخ الطبي. ألا تعتبر جائحة كورونا المستجد هي الأخطر تاريخيًّا؟

‏دعني أبدأ بقاعدة أساسية: كورونا المستجد لن يكون الوباء الأكثر فتكًا في تاريخ البشرية- ‏لكن هو تحدٍ قائم وخطر حقيقي علينا الحد من آثاره. والأمر عائد لنا. فكل الأوبئة السابقة كانت هي من تتحكم في البشر ولم يتجاوز دور الإنسان فيها دور المتأثر إجمالًا، لكن التاريخ سيسجل أن جائحة كورونا المستجد هي أول جائحة يستطيع البشر التأثير فيها وكبح جماحها. والدرس المستفاد من تجربة الصين وكوريا الجنوبية هو أن التطبيق الصارم للتباعد الاجتماعي وعلاج المصابين ومتابعة جميع الحالات المحتملة استطاع تتغير المعادلة لصالح الإنسان وصارت تجربة يتعلم منها بقية العالم.

‏نعم، سنفقد الآلاف من الأرواح وربما أكثر، لكن الخيار بأيدينا كبشر.

‏وبالمقارنة مثلا بالانفلونزا الاسبانية عام 1918 نجد أنها قتلت بين 50 إلى 100 مليون شخص. وقبل ذلك الجدري أودى بحياة ما يربو على 300 مليون شخص تقريبا. وإذا علمنا أن كورونا المستجد يقتل في المتوسط حوالي 2 % وهي نسبة قليلة بالمقارنة بسلالات‏ أخرى من فيروس كورونا. فمثلا فيروس سارز SARS كان يقتل حوالي 10 % من المرضى. وفيروس متلازمة الشرق الاوسط MERS كان يقتل حوالي 30 % من المرضى.

ماذا عن الأوبئة تاريخيا في منطقة الخليج؟

من يتتبع تاريخ الخليج يجد أنه مرت عليه عدة تجارب مؤلمة خصوصا في فترة ما قبل النفط.

فعلى سبيل المثال الطاعون والجدري والحصبة والكوليرا كلها مرت على المنطقة وسميت محليا هذه الأعوام بسنوات الرحمة، فمثلا انتشار الإنفلونزا الإسبانية سنة 1919 مع نهاية الحرب العالمية الأولى وبعدها عودة الطاعون ‏للبحرين سنة 1924 مما تسبب في قتل الآلاف من أهل البحرين والخليج وقتها. ولك أنت تتصور حجم المعاناه آنذاك حيث ظل كثير من الجثث أياما قبل دفنها لكثرة عدد الوفيات وتخوف الأهالي من المرض.

ماذا عن اكتشاف علاج أو تطعيم لڤيروس كورونا المستجد؟

‏نعم، هناك جهود علمية كثيرة. أما بخصوص التطعيم فقد بدأت التجربة على متطوعين في ولاية واشنطن خلال هذا الشهر، ولكن يتوقع معظم الخبراء أنه لن يكون لدينا تطعيم مرخص قبل حوالي 18 - 24 شهرا من الان.

‏وبالمقابل هناك على الأقل 6 دراسات تجري حاليا على علاجات مضادة للفيروس في الأشخاص المصابين، ولكن أيضا يُتوقع أن اثبات فعاليتها وأمانها للاستخدام سيستغرق عدة أشهر أو سنوات.

ومع إيماني أن الأبحاث الطبية حول العالم ستنجح يوما ما في اكتشاف تطعيم وقائي للأصحاء وأيضا علاج مضاد للفيروس للمصابين، إلا أنني أعتقد إن هذه الخطوات المهمة ‏لن تكون بين يدينا خلال الأشهر القادمة، حيث إننا نحتاج إلى تدخل سريع لوقف انتشار الجائحة عالمياً وهذه الخطوات يجب أن تكون حازمة وشاملة وتقوم على مبادئ التباعد الاجتماعي وفحص أكبر عدد ممكن وعزل وعلاج المصابين بكفاءة والمحافظة على مبادئ الصحة العامة. ولنتذكر أن كل منا مسؤول وأن أي تهاون من أي طرف سواء أفراداً أو مؤسسات أو دول سيدفع ثمنه بقية العالم غاليا.

هل من كلمة أخيرة؟

نحن نمر بظروف عالمية استثنائية. نعلم أنها لن تستمر للأبد. وأنا شخصيا متفائل بقدرة البشرية على التعاون.

نعم. ستمر هذه الجائحة خلال الأشهر القادمة، وستكون لدينا حكايا للأجيال القادمة ولكن علينا أن نختار. فهل سنخبرهم بأننا فشلنا في ‏احتوائها.. أم أنها ستكون ملحمة انتصار البشرية على جائحة ‏لم يرَ العالم لها مثيلاً من قبل.