+A
A-

تركه ما لا يعنيه

“مِن حُسن إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعْنيه” صحيح الجامع، الألباني: 5911. كم هو عظيمٌ هذا الحديثُ الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه؛ إذ يُعتبر من جوامع الكلم التي أعطيتْ نبينا محمّدا صلى الله عليه وسلم، فالناظر في الحديث الشريف يُدرك أنّه قليلُ الكلمات قصيرُ الجمل، لكنّه في الحقيقة عظيمُ المعاني والمبَادئ؛ ولذا اعتبره الحافظ ابن رجب أصلا من أصول الأدب، واعتبره الآخرون ثُلث الإسْلام أو رُبعه؛ لما يشتملُ عليه من الأدب العالي وتهذيب النفس وتربيته، وتعويده على حسن التعامل مع الآخرين، والعناية بما يهمّ المسلم أمره ويخصّه، وتدريبه على تَرْكِ كلّ شيء لا يعني المسلم شأنه، وأحبّ أن تكون لي وقفات مع المعاني المستنبطة من هذا الحديث المبارك من خلال الأسطر الآتية:

1. اهتم بما ينفعك ويفيدك في دينك ودنياك، وصحّتك وبدنك، ويسعدُ قلبك وروحك الجميلة، وينفع مجتمعك وأمّتك من أعمال الخير والبر، وفعْلِ الطاعات وأداء الحقوق، وتحقيق التوازن بين النصيحة وحسن التعامل، وخدمة الدين وإعمار الأرض، والدعوة وزرع الألفة والمحبة بين المسلمين.

2. اترك ما لا يعنيك ولا يهمّك من الأقوال والأفعال والأعمال والأسئلة المحرجة للآخرين، وضياع الجهد والوقت والكفاءة في أمور صغيرة، لا ناقة لك فيها ولا جمل، فإن “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”.

يقول المتنبي:

عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ

وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ

وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها

وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ.

3. اترك ما لا يعنيك من سفاسف الأمور والتدخل في شؤون الآخرين، فقلوبُ الناس ليستْ جَنّة، وبعضُهم لا يعرف إلا الشرّ، فإياك أن تكون فريسة سهلة بين أنيابهم، أو تنزل إلى القاع المظلم بسببهم.

4. ابتعد عن اللغو وفضول الكلام والنقاشاتٍ العقيمةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، وليكن اختلافنا اختلاف عقول لا اختلاف قلوب، ولنرحم الناس عند الاختلاف بدلا عن تجريحهم وازدرائهم وتنقيصهم حقهم.

وَجرحُ السيفِ تدملُهُ فَيَبْرىٰ

وَيبقىٰ الدهرُ ما جَرَحَ اللسانُ.

5. لا تتدخل في كلّ تحليل يُقال، وفي كلّ مجال يُذكر، وفي كلّ تخصص يُعرف، وفي كلّ خبر يُنشر، وكلّ تعليق يُكتب، ولا تكبّر عثرةً من صاحبٍ أو أخ لك، فإن التغاضي مطلوب، يقول كثير عزة:

ومن لا يُغَمِّضْ عَينَهُ عن صَديقِهِ

وَعَنْ بَعْضِ ما فيه يَمُتْ وَهُوَ عَاتِبُ

ومن يَتَتَبَّعْ جاهِداً كلَّ عَثْرَةٍ

يجدْها ولا يسْلَمْ له الدَّهْرَ صاحِبُ.

ديوان كثير عزة، بتحقيق د. إحسان عباس: 154.

6. بعض الناس يحاولون التصدّر في كلّ شيء، ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ويعشقون الأضواء في المجالس، والتجاوز في إشارات المرور، والتقدم في الطابور، والأولوية في إنجاز المعاملات، وكأنهم جاؤوا من كوكب وعالمٍ آخر، فإياك أن تكون ضحية لطيشهم وتسرّعهم، أنشد عبد الله بن مصعب بن مسلم فقال:

تَرَى الْمَرْءَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَقُولَ

وَأَسْلَمُ لِلْمَرْءِ أَنْ لا يَقُولا

فَأَمْسِكْ عَلَيْكَ فُضُولَ الْكَلامِ

فَإِنَّ لِكُلِّ كَلامٍ فُضُولا.

المجالسة وجواهر العلم، الدينوري: 4/‏38.

7. ذكر الإمام ابن القيم (رحمه الله) في كتابه الفوائد مجموعة من الأخلاق الفاضلة كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفة والصيانة والجود والحِلم والقناعة والصدق، وذكر من بينها التغافل عن زلات الناس وترك الاشتغال بما لا يعنيه، ثم قال: إن مردّها كلها إلى الخشوع وعلوّ الهمة.

فوائد الفوائد، ابن القيم: 419.

شمعة أخيرة:

روى أبو عبيدة، عن الحسن قال: منْ علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، وقال سهل بن عبدالله التستري: من تكلّم فيما لا يعنيه حرم الصدق، وقال معروف: كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عزوجل. (أعاذنا الله وإياكم منه).

جامع العلوم والحكم، ابن رجب 249/‏1.

د. سعد الله المحمدي