+A
A-

“البلاد” تنشر كتاب “الشيخوخة النشطة” لأحلام القاسمي (2)

اعتماد مؤشر الشيخوخة النشطة لقياس التنمية الإنسانية بالعالم

 

تنشر “البلاد”، على حلقات، أبرز ما يتضمنه كتاب أستاذ علم الاجتماع المساعد بقسم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة البحرين أحلام القاسمي الموسوم “الشيخوخة النشطة: التحديات والمؤشرات والتجارب الناجحة وتطبيقاتها في دول مجلس التعاون الخليجي”.

وأعدّ الكتاب لصالح المجلس التنفيذي لمجلس وزراء العمل ومجلس وزراء الشؤون الاجتماعية في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.  العالم يشيخ، ويشيخ وبسرعة. هذه حقيقة لم تعد موضع جدال ونقاش، بل هي واحدة من أهم الحقائق على مستوى التغيرات العالمية فيما يتعلق بالتركيب العمري.  ويعتبر مفهوم “الشيخوخة النشطة” من أبرز المفاهيم القليلة التي ظهرت في السنوات الأخيرة لتشخيص هذا الوضع الراهن، وتقديم الحل الأنسب لهذه التحولات التي أخذت تزحم على معظم بلدان العالم.

تعرّف منظمة الصحة العالمية “الشيخوخة النشطة” بأنها “عملية تحسين فرص الصحة، والمشاركة، والأمن؛ من أجل تحسين جودة الحياة مع تقدم البشر في العمر”.

 

تعريف منظمة الصحة للشيخوخة النشطة

تحسين فرص الصحة والمشاركة والأمن

تعرّف منظمة الصحة العالمية “الشيخوخة النشطة” بأنها “عملية تحسين فرص الصحة، والمشاركة، والأمن؛ من أجل تحسين جودة الحياة مع تقدم البشر في العمر”.

ويحدد إطار العمل هذا العديد من محددات الشيخوخة المسنة، والتي تشمل الوصول إلى الخدمات الصحية والاجتماعية، وإلى البيئات الاجتماعية والمادية والشخصية والسلوكية، والمحددات الاقتصادية، والتي تتأثر كلها بالثقافة والجندر (النوع الاجتماعي).

ومن الواضح أن هذا التعريف ينطلق من أرضية التنمية الإنسانية؛ بدليل أنه يتبنى تعريف “التنمية الإنسانية” الذي اعتمدته تقارير التنمية الإنسانية، وذلك من خلال تأكيده على أن “الشيخوخة النشطة” هي “عملية تحسين الفرص” مع التقدم في العمر.

وهو الأمر الذي يشير إلى أهمية اعتماد مؤشر “الشيخوخة النشطة” من بين مؤشرات قياس التنمية الإنسانية في العالم. ذلك أنه لا يكفي أن نعرف أن متوقع عمر البشر يرتفع بين سكان العالم، بل الأهم من ذلك أن نعرف هؤلاء السكان يعيشون طويلا، وهم متمتعون بصحة جيدة نفسياً وبدنيا واجتماعيا.

ينبغي أن نقول بأن هناك بدائل ومفاهيم أخرى قريبة استخدمت من جانب باحثين ومنظمات دولية – بما فيها منظمة الصحة العالمية – كبديل عن مفهوم الشيخوخة النشطة، وذلك في محاولة من هؤلاء لتقديم مفهوم علمي يحدد جودة الحياة لكبار السن بعد أن أخذت أعمار البشر في الارتفاع منذ منتصف القرن العشرين. وأشهر البدائل هي:

 

1. الشيخوخة الصحية: يابانيون مسنون غير مصابين بأمراض مزمنة

قدم بينفانت وزملاؤه مفهوم الشيخوخة الصحية في العام 1985 حين درسوا المؤشرات الاجتماعية والبيولوجية لصحة المسنين، وذلك من خلال دراسة أكثر من 5000 رجل من أصل ياباني تتراوح أعمارهم بين 46-69 غير مصابين بالأمراض المزمنة الرئيسة ولمدة 12 عاما من المتابعة.

وعلى منوال بينفانت وزملائه سار جاك غورلينك وكابلان في دراستهما لمؤشرات الشيخوخة الصحية في مقاطعة ألميدا بولاية كاليفورنيا الأميركية في العام 1989.

ومن الواضح أن أرضية هؤلاء كانت طبية بحتة، ولهذا جاء المفهوم يركز على غياب المعاناة والمرض، وتمتع المسن بصحـة جيدة.

وبعد بينفانت وزملائه، استخدم العديد من الباحثين هذا المفهوم، إضافة إلى أن منظمة الصحة العالمية ضمنت “الشيخوخة الصحية” لبرنامجها عن “المدن الصحية” خلال الأعوام (2003-2007).

كما تبنت المنظمة ذاتها هذا المفهوم في تقريرها العالمي حول “الشيخوخة والصحة” للعام 2015.

ويحدد هذا التقرير مفهومين أساسيين؛ من أجل هيكلة طريقة دراسة الصحة والوظيفية مع تقدم العمر، الأول هو مفهوم “القدرة الداخلية”، ويشير إلى مجموع القدرات البدنية والنفسية التي يستطيع الشخص الاستفادة منها في أي مرحلة عمرية.

والمفهوم الثاني هو “القدرة الوظيفية” التي تعني “المواصفات المرتبطة بالصحة التي نمكن الناس من أن يكونوا ويفعلوا ما يعتبرونه ذا قيمة”. وهذا المفهوم هو حصيلة تفاعل القدرة الداخلية للمسن مع البيئات التي يعيش فيها المسن ويتفاعل مع ما توفره من موارد وعقبات.

وعلى هذا، فربما كانت قدرات المسن محدودة، إلا أن هذا لا يمنعه بالضرورة من ممارسة حياته إذا توفرت له بيئة داعمة وتمكينية توفر له الدواء وعصا المشي أو كرسي متحرك، ومواصلات ميسرة وسهلة الوصول.

 

2. الشيخوخة المنتجة موضة لمن يبحث عن مقاربة أكثر إيجابية للشيخوخة

ظهر مصطلح “الشيخوخة المنتجة” في ثمانينات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية. وظهر في سياق تطورات سياسية واجتماعية متنوعة. فمن جهة، كان الباحثون يريدون التحول من تركيز أبحاث الشيخوخة على كبار السن إلى التركيز على عملية التنمية الإنسانية خلال مسار الحياة. الأمر الذي يعني أن العمر الزمني ليس مؤشرا جيدا للأداء.

ومن جهة أخرى، كانت مجموعة كبيرة من المواطنين الأميركيين من كبار السن يطالبون بشيء آخر إلى جانب الالتزامات التقليدية ما بعد سن التقاعد. ومن هنا جاء مفهوم “الشيخوخة المنتجة”. وأصبح منذ ذلك الحين، موضة لكثيرين يبحثون عن مقاربة أكثر إيجابية تجاه الشيخوخة”.

وقد تفاعل هذا التوجه مع مخاوف راسمي السياسات من الضغط المتزايد على صناديق التقاعد وخدمات الرعاية الصحية لكبار السن.

وقد أثيرت هذه المخاوف لدى كثير من المنظمات الاقتصادية في أوروبا والعالم. ومن هنا أصبح مفهوم “الشيخوخة المنتجة” سمة أساسية من سمات السياسات الاجتماعية في الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون والتنمية.

إلا أنه مازالت هناك مشكلة في هذا المفهوم، وهي أنه يحصر أهمية كبار السن في قدرتهم الإنتاجية، أي في قدرتهم على إنتاج السلع والخدمات، أي في الاستمرار في العمل المنتج وبأجر.

وكرد فعل على هذه المشكلة ظهر مفهوم “الشيخوخة النشطة” في التسعينات من القرن العشرين، وذلك بتأثير منظمة الصحة العالمية التي كانت تطور مفهوما للشيخوخة يجمع بين الصحة والنشاط معا.

والفكرة الكامنة وراء هذا المفهوم الجديد يمكن التماسها في هذه العبارة التي استخدمتها منظمة الصحة العالمية لتوصيف حالة التقدم في العمر، حيث “سنوات تضاف إلى الحياة، والآن علينا أن نضيف الحياة إلى السنوات”. مما يعني أن هناك إستراتيجية مختلفة وأوسع من مجرد إبقاء كبار السن منتجين لأطول فترة ممكنة.

 

3. الشيخوخة الذهنية استدعاء لوقت السلام والاستقرار بالأسطورة اليونانية

لا يبدو أن هذا استخدام اصطلاحي دقيق، إلا أن البنك الدولي استخدم هذا المصطلح في تقريره للعام 2015 عن الشيخوخة في بلدان أوروبا وآسيا الوسطى بعنوان “الشيخوخة الذهبية: توقعات بشيخوخة صحية ونشطة ومتمتعة بالرخاء في أوروبا وآسيا الوسطى”.

ويبدو أن هذا استخدام مجازي يرجع بجذوره إلى أصل يوناني لا ينسى التقرير تذكيرنا به. فالعمر الذهبي، في الأساطير اليونانية، هو وقت السلام والوئام والاستقرار والرخاء للبشر الذين عاشوا عمرا متقدما جدا.

ويشير التقرير إلى أن شيخوخة المجتمعات قد تعكس ركودا أو تراجعا في مستويات المعيشة مع عواقب اقتصادية واجتماعية معقدة، إلا أن ذلك ليس أمرا حتميا؛ لأن وجود بيئة داعمة للشيخوخة يسهم في الحد من التبعات السلبية لشيخوخة المجتمعات، فالسياسات السليمة والحوافز والدعم، كذل هذا يساعد في الحد من اتكالية كبار السن، ويسهم في استدامة إنتاجيتهم، ويساعدهم على العيش في شيخوخة صحية ونشطة ومتمتعة بالرخاء والعطاء.

 

4. الشيخوخة الناجحة لا تقترن بتدهور الوظائف العضوية والنفسية

في محاولة لتوسيع نطاق الحياة الجيدة في عمر الشيخوخة بما يتجاوز حصرها في بعد واحد فقط هو الصحة والمرض، قام هفيغرست بوضع مقياس “الشيخوخة الناجحة” لقياس مدى الرضا عن الحياة لدى كبار السن.

إلا أن المفهوم الحديث للشيخوخة الناجحة يدين، بشكل كبير، إلى إسهامات جون روو وروبرت كان في العام 1987 – ولاحقا في العام 1997 -، حيث قدّم هذان الباحثان مفهوم الشـيخوخة الناجحة ليثبتا أن الشيخوخة لا تقترن بالضرورة بتدهور الوظائف العضوية والنفسية.

وبحسب هذا المفهوم، فإن الشيخوخة تكون ناجحة بقدر “غياب المرض والعجز”، وفي التسعينات قام الاثنان بتوسيع هذا النموذج ليشمل المحافظة أو رعاية الوظائف الذهنية والبدنية، والانخراط في أنشطة اجتماعية وإنتاجية، وهو ما يعبر عنه الباحثان بـ “الانخراط النشط في الحياة”.

والخلاصة أن نموذج روو، وكان يتألف من ثلاثة عناصر أساسية، وهي: 1- غياب المرض والعجز، 2- الانخراط النشط في الحياة، 3- تعظيم الأنشطة البدنية والذهنية إلى الحد الأقصى.

وقد قام كثير من الباحثين باستخدام هذا النموذج مع إجراء بعض التعديلات عليه؛ لأنه لا يتصور الغياب الكامل للمرض لدى كبار السن، فبدل هذا أصبح الباحثون يشيرون إلى “تقليص” أو “تقليل” المرض والعجز.

كما قام باحثون في العام 2002 بمراجعة هذا النموذج وأضافوا عنصرا رابعا ليكتمل النموذج بحسب رأيهم، وهو: الروحية الإيجابية.

وهناك باحثون آخرون أضافوا عنصرا رابعا مختلفا يركز على “التقييم الذاتي”، أي تقييم المسن نفسه لمدى تمتعه بالشيخوخة الناجحة.

وباختلاف معايير “الشيخوخة الناجحة” اختلفت قياساتها، وتباينت نسبها بين كبار السن من سكان العالم، بحيث تراوحت النسب بين 4 % و50 % من كبار السن ممن هم في عمر الـ 65 أو أكثر.

إلا أن المشكلة في مفهوم “الشيخوخة النشطة” أنهم يتضمن حكم قيمة على حياة المسنين، فوجود “شيخوخة ناجحة” يتضمن وجود ضدها أي “شيخوخة فاشلة”، أي كبار السن الذي لم ينجحوا في شيخوختهم.

ومن أجل تجاوز هذه “الطبيعة الوصمية” للمفهوم، تم تطوير مفاهيم أخرى، من بينها “الشيخوخة المنتجة”.

 

5. ولادة المصطلح بالعام 2002 الشيخوخة النشطة ترتكز على مبادئ حقوق الإنسان

في العام 2002 قدمت المنظمة تعريفها الشهير للشيخوخة النشطة، والذي ينص على أنها “عملية تحسين فرص الصحة، والمشاركة، والأمن؛ من أجل تحسين جودة الحياة مع تقدم البشر في العمر”. ويسمح هذا المفهوم للمسنين أن يدركوا قدراتهم العضوية والنفسية والاجتماعية، ومن ثم يشاركوا في النشاط الاجتماعي وفقا لاحتياجاتهم، ورغباتهم وإمكاناتهم، وهو ما يمنحهم الحماية والأمن والرعاية من الجميع.

ويرتكز مفهوم الشيخوخة النشطة على مبادئ حقوق الإنسان عامة، والتي تنص على ضرورة تمتع جميع البشر من كل الأعمار بحقوق الحياة والحرية والكرامة والرعاية وتحقيق الذات. وذلك لتحقيق مجتمع لكل الأعمار بحيث يتمتع الجميع بحقهم في الفرص في كل نواحي الحياة عندما يتقدمون في العمر، بما يعزز مسؤوليتهم في المشاركة في العملية السياسية وكل جوانب الحياة الاجتماعية والمدنية والروحية والثقافية.

ويسمح مفهوم الشيخوخة النشطة للبشر بأن يدركوا حجم إمكاناتهم الكامنة بدنيا واجتماعيا وذهنيا.

ويشير وصف “نشطة” إلى استمرار إسهام المسنين في الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والروحية والمدنية، إضافة إلى النشاط البدني واستمرار الإنتاجية في قوة العمل.

يذكر أن مفهوم منظمة الصحة العالمية لا يحصر “الصحة النشطة” في النشاط البدني وقوة العمل؛ بل هو يؤكد بأن كبار السن المتقاعدين، سواء كانوا مرضى أو يعيشون في عجز من نوع ما، يمكنهم أن يبقوا نشيطين وقادرين على الإسهام في أنشطة عائلاتهم وزملائهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم المحلية وحتى لأمتهم.

وهذا يدل على أن مفهوم “الشيخوخة النشطة” يسعى إلى توسيع مفهوم الحياة الصحية وجودة الحياة لتتجاوز حصرها في النشاط البدني ودرجة الإسهام في قوة العمل. وعلى هذا، يمثل مفهوم الشيخوخة النشطة مدخلا علميا وإنسانيا وأخلاقيا للتعامل مع كبار السن، ويرتكز هذا المدخل على فكرة أساسية، وهي أن مرحلة الشيخوخة ليست عبئا اقتصاديا واجتماعيا على المجتمع، بل على العكس من ذلك تماما فهي مرحلة العطاء النشط والخبرة التي تمثل موردا إنسانيا ثمينا.

ويؤكد مفهوم الشيخوخة النشطة على التوازن بين جانبين قريبين من مفهومي “القدرة الداخلية” و”القدرة الوظيفية” التي سبق عرضهما في مفهوم الشيخوخة الصحية.

وهذان الجانبان هما: المسؤولية الشخصية (رعاية الذات)، والبيئات الصديقة للمسن والتضامن بين الأجيال.

يشير الجانب الأول إلى دور المسن في رعاية نفسه، وإلى أهمية أن يكون واعيا بقدرته على أن يعيش “شيخوخة نشطة” بما تعنيه من التمتع بصحة ونشاط وأمن ومشاركة في أنشطة الحياة، وأن الوصول إلى ذلك يتطلب منه كمسن أن يكون إيجابيا لا سلبيا، فلن تأتي “الشيخوخة النشطة” كهبة خالصة من الآخرين؛ لأنه مهما توفرت البيئات الداعمة، فلن يكون لها تأثير كبير ما لم يكن المسن مستعدا لذلك، ولديه الرغبة وشاعرا بالحاجة إلى المشاركة.

أما الجانب الثاني، فيشير إلى توفير البيئات الداعمة والسياسات السليمة وتحمل الآخرين لمسؤولياتهم تجاه المسن سواء كانوا أسرا أو جهات حكومية أو مؤسسات مجتمع مدني.