لطالما لازمتني هذه الطرفة والتي سأرويها لك سيدي القارئ كلما حاولت التحدث أو حتى الاستماع إلى من يتحدث عن هذا النمط من التنظيم الإداري وأقصد به البيروقراطية. هذه الطرفة التي ترفض مغادرة الذاكرة والانتقال إلى خزانة النسيان تعكس في رأيي وإلى درجة عالية من الوضوح أحد ملامح البيروقراطية والذي تعرفه المصادر الإدارية بأنه “الإلتزام باللوائح والقوانين والإجراءات”. تقول الطرفة أو لنطلق عليها الموقف الأول:
يحكى أن اثنين من الرحالة ضلا طريقهما وتاها في الصحراء. وبعد معاناة قسوة حرارة الشمس والعطش وبعد أن أنهكهما التعب لمح أحدهما مبنى أو هكذا تراءى له. هل هو فعلاً مبنى أم أنه سراب؟ هذا لا يهم الآن! أنه بصيص من الأمل يجب التمسك به وبكل قوة. وفعلاً وصل إلى ذاك المبنى وأراد الدخول. ولكن الحارس أوقفه قائلاً له وبلهجة مهذبة: لا يمكنني السماح لك بالدخول سيدي لأنك لا ترتدي ربطة عنق وأنا ملزم بتطبيق النظام في هذا الفندق ولكني سأحضر لك الماء وأنقل مشكلتك إلى المسؤول. رجاء ابق هنا.
ربما ينظر البعض إلى التعريف السابق للبيروقراطية نظرة إيجابية وأكاد أشاطر هذا البعض نظرته تلك ولكن الغلو والتطبيق الآلي لذلك المفهوم هو في رأيي خروج عن دائرة المنطق والتعقل، بل أراه تنازلاً طوعياً من قبل القائد الإداري لدوره والذي يقول عنه جنرال بون باتون “هو من يستطيع تطويع المبادئ طبقاً للظروف”. أليس هذا دور القائد الإداري سيدي القارئ؟ ما رأيك الآن في الموقف التالي:
تقدمت الطالبة بطلب إعفائها من السنة التمهيدية في إحدى الجامعات وأشفعت طلبها بمؤهلات حصلت عليها في اللغة الإنجليزية من إحدى المعاهد في بريطانيا. قابلت المدير بعد رفض طلبها وشرحت له بأنها درست اللغة لمدة تزيد عن الخمسة أشهر هناك وأن موقعها كان على رأس القائمة في امتحان تحديد المستوى في هذه الجامعة. كما وأن هناك توصية بعدم حاجتها إلى السنة التمهيدية. أتاها الجواب صادماً فقد أصر المدير على رأيه قائلاً: النظام يقول بأن الإعفاء للطلبة المتفوقين في اللغة الإنجليزية في شهادة الثانوية العامة فقط! النظام هو النظام. وأضاعت الطالبة سنة من عمرها نتيجة ذاك القرار. ما الفرق سيدي القارئ بين ذاك الحارس وبين هذا المدير في تعاملهما مع النظام وأسلوب تطبيقه؟